فصل
، بل تأخر حتى أكمل رمي أيام التشريق الثلاثة ، وأفاض يوم الثلاثاء بعد الظهر إلى ولم يتعجل صلى الله عليه وسلم في يومين المحصب ، وهو الأبطح ، وهو خيف بني كنانة ، فوجد أبا رافع قد ضرب له فيه قبة هناك ، وكان على ثقله توفيقا من الله عز وجل دون أن يأمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ورقد رقدة ، ثم نهض إلى مكة ، فطاف للوداع ليلا سحرا ، ولم يرمل في هذا الطواف ، ( صفية أنها حائض فقال : " أحابستنا هي ؟ " فقالوا له إنها قد أفاضت قال : " فلتنفر إذا " ) ورغبت إليه وأخبرته تلك الليلة أن يعمرها عمرة مفردة ، فأخبرها أن طوافها بالبيت عائشة وبالصفا والمروة ، قد أجزأ عن حجها وعمرتها ، فأبت إلا أن تعتمر عمرة مفردة ، فأمر أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم ، ففرغت من عمرتها ليلا ، ثم وافت المحصب مع أخيها ، فأتيا في جوف الليل فقال [ ص: 268 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : " . هذا لفظ فرغتما " ؟ قالت : نعم ، فنادى بالرحيل في أصحابه ، فارتحل الناس ، ثم طاف بالبيت قبل صلاة الصبح . البخاري
فإن قيل : كيف تجمعون بين هذا ، وبين حديث الأسود عنها الذي في " الصحيح " أيضا ؟ قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم نر إلا الحج ... فذكرت الحديث وفيه ( مكة ؟ قالت : قلت : لا . قال : " فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم ، فأهلي بعمرة ، ثم موعدك مكان كذا وكذا " ، قالت : فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من عائشة مكة ، وأنا منهبطة عليها ، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها ) . فلما كانت ليلة الحصبة قلت : يا رسول الله يرجع الناس بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة ؟ قال : أوما كنت طفت ليالي قدمنا
ففي هذا الحديث أنهما تلاقيا في الطريق ، وفي الأول أنه انتظرها في منزله ، فلما جاءت نادى بالرحيل في أصحابه . ثم فيه إشكال آخر ، وهو قولها : لقيني وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة عليها ، أو بالعكس ، فإن كان الأول ، فيكون قد لقيها مصعدا منها راجعا إلى المدينة ، وهي منهبطة عليها للعمرة ، وهذا ينافي انتظاره لها بالمحصب .
قال : الصواب الذي لا شك فيه أنها كانت مصعدة من أبو محمد بن حزم مكة ، وهو منهبط ؛ لأنها تقدمت إلى العمرة وانتظرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت ، ثم نهض إلى طواف الوداع ، فلقيها منصرفة إلى المحصب عن مكة ، وهذا لا يصح ، فإنها قالت : وهو منهبط منها ، وهذا يقتضي أن يكون بعد المحصب ، والخروج من مكة ، فكيف يقول أبو محمد : إنه نهض إلى طواف [ ص: 269 ] الوداع وهو منهبط من مكة ؟ هذا محال .
وأبو محمد لم يحج . وحديث القاسم عنها صريح كما تقدم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرها في منزله بعد النفر حتى جاءت فارتحل وأذن في الناس بالرحيل فإن كان حديث الأسود هذا محفوظا ، فصوابه لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مصعدة من مكة ، وهو منهبط إليها ، فإنها طافت وقضت عمرتها ، ثم أصعدت لميعاده ، فوافته قد أخذ في الهبوط إلى مكة للوداع ، فارتحل وأذن في الناس بالرحيل ، ولا وجه لحديث الأسود غير هذا ، وقد جمع بينهما بجمعين آخرين ، وهما وهم .
أحدهما : أنه طاف للوداع مرتين مرة بعد أن بعثها ، وقبل فراغها ، ومرة بعد فراغها للوداع ، وهذا مع أنه وهم بين ، فإنه لا يرفع الإشكال بل يزيده فتأمله .
الثاني : أنه انتقل من المحصب إلى ظهر العقبة خوف المشقة على المسلمين في التحصيب ، فلقيته وهي منهبطة إلى مكة ، وهو مصعد إلى العقبة ، وهذا أقبح من الأول ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من العقبة أصلا ، وإنما خرج من أسفل مكة من الثنية السفلى بالاتفاق . وأيضا : فعلى تقدير ذلك لا يحصل الجمع بين الحديثين .
وذكر أنه رجع بعد خروجه من أسفل أبو محمد بن حزم مكة إلى المحصب ، وأمر بالرحيل ، وهذا وهم أيضا ، لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وداعه إلى المحصب ، وإنما مر من فوره إلى المدينة .
وذكر في بعض تآليفه أنه فعل ذلك ليكون كالمحلق على مكة بدائرة في دخوله وخروجه ، فإنه بات بذي طوى ، ثم دخل من أعلى مكة ، ثم خرج من أسفلها ، ثم رجع إلى المحصب ، ويكون هذا الرجوع من يماني مكة حتى تحصل الدائرة ، فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاء نزل بذي طوى ، ثم أتى مكة من كداء ، ثم نزل به لما فرغ من الطواف ، ثم لما فرغ من جميع النسك نزل به ، ثم خرج من أسفل مكة [ ص: 270 ] وأخذ من يمينها حتى أتى المحصب ، ويحمل أمره بالرحيل ثانيا على أنه لقي في رجوعه ذلك إلى المحصب قوما لم يرحلوا ، فأمرهم بالرحيل ، وتوجه من فوره ذلك إلى المدينة .
ولقد شان أبو محمد نفسه وكتابه بهذا الهذيان البارد السمج الذي يضحك منه ، ولولا التنبيه على أغلاط من غلط عليه صلى الله عليه وسلم لرغبنا عن ذكر مثل هذا الكلام . والذي كأنك تراه من فعله أنه نزل بالمحصب وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ورقد رقدة ، ثم نهض إلى مكة ، وطاف بها طواف الوداع ليلا ، ثم خرج من أسفلها إلى المدينة ، ولم يرجع إلى المحصب ، ولا دار دائرة ففي " صحيح " : عن أنس ، ( البخاري بالمحصب ، ثم ركب إلى البيت وطاف به ) . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب ، والعشاء ، ورقد رقدة
وفي " الصحيحين " : عن خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت الحديث ، ثم ( قالت : عائشة منى ، فنزلنا بالمحصب ، فدعا فقال له : " اخرج بأختك من الحرم ، ثم افرغا من طوافكما ، ثم ائتياني هاهنا عبد الرحمن بن أبي بكر بالمحصب " . قالت : فقضى الله العمرة وفرغنا من طوافنا في جوف الليل ، فأتيناه بالمحصب . فقال : فرغتما ؟ قلنا : نعم . فأذن في الناس بالرحيل فمر بالبيت فطاف به ، ثم ارتحل متوجها إلى المدينة ) . حين قضى الله الحج ونفرنا من
فهذا من أصح حديث على وجه الأرض ، وأدله على فساد ما ذكره وغيره من تلك التقديرات التي لم يقع شيء منها ، ودليل على أن حديث ابن حزم الأسود غير محفوظ ، وإن كان محفوظا ، فلا وجه له غير ما ذكرنا ، وبالله التوفيق .