الوجه الخامس عشر : قال قائل في حديث : إنه البخاري ، فدل على أنه لا شيء بعده . والجواب أن هذا كلام من لم يتسع نظره في الحديث ، ولا اطلع على مصطلحات العلماء المتكلمين على الأحاديث ، حيث يجمعون طرق الأحاديث كلها ورواياته ، ويضمون بعضها إلى بعض ، ويأخذون من كل حديث ما فيه من فائدة زائدة ، ويقولون فيما خلا من تلك الزيادة : هذا حديث مختصر ورد في غيره زيادة عليه ، والحديث الذي في يقال له عقب السؤال نم صالحا لفظه عن البخاري ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أسماء بنت أبي بكر محمد رسول الله ، جاءنا بالبينات والهدى ، فأجبنا واتبعنا ، فيقال : نم صالحا ، قد علمنا إن كنت لمؤمنا ، وأما المنافق أو المرتاب فيقول : ما أدري ! سمعت الناس يقولون شيئا فقلته . هذا لفظ إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ، فيقال : ما علمك بهذا الرجل ، فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو من غير زيادة عليه ، وهو أخصر حديث ورد في السؤال . البخاري
وقد ورد سواه أحاديث مطولة صحيحة فيها زيادات كثيرة اعتمدها الناس ، ولا يسعهم إلا اعتمادها ، فإن أخذ هذا الرجل بهذا الحديث فقط وترك ما سواه لزمه رد ما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، ولا يقع في ذلك عاقل ، من ذلك أنه لم يذكر في هذا الحديث السؤال عن ربه ودينه ، وهو ثابت في غيره ، وأن المؤمن يقول في الجواب : ربي الله وديني الإسلام ، ومن ذلك أنه لم يسم فيه الملكان بمنكر ونكير ، وهو ثابت في حديث ، وقد أطبق الترمذي أهل السنة على اعتباره ، ولم يخالف فيه إلا المعتزلة ، فقالوا : لا يجوز أن تسمى الملائكة بمنكر ونكير ، ولم يلتفت أهل السنة إلى قولهم اعتمادا على ما جاء في بعض طرق الحديث ، إلى غير ذلك من الزيادات الواقعة في أحاديث السؤال على كثرتها ، فإنها أكثر من سبعين حديثا ما من حديث منها إلا وفيه زيادة ليست في غيره ، فمن لم يقف إلا على حديث واحد من سبعين حديثا حقه أن يسكت مع الساكتين ، ولا يقدم على رد الأحاديث وإلغائها ، وتأويل حديث أنه يقال له : نم صالحا .. عند آخر جواب يجيب به في آخر يوم يسأل فيه ، وذلك من المحذوفات المطوي ذكرها في الحديث كسائر ما حذف منه ، وما أحسن ما وقع للحافظ البخاري [ ص: 234 ] حيث تكلم على الحديث في " الموطأ " وغيره ، أن أبي عمر بن عبد البر جبريل لم يصل في وقت فرض الصلاة بالنبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس إلا مرة واحدة ، فقال : والجواب عن ذلك أنه قد ثبت إمامة جبريل لوقتين : ما بين هذين وقت ، وهذه زيادة يجب قبولها والعمل بها لنقل العدول لها ، وليس ترك الإتيان بحجة ، وإنما الحجة في شهادة من شهد لا في رواية من أجمل واختصر . انتهى كلام . ابن عبد البر
ووقع له أيضا أنه تكلم على حديث ، ثم روى من طرق مرسلة زيادة عليه ، ثم قال : ومراسيل مثل هؤلاء عند مالك حجة ، وهو خلاف ظاهر حديث " الموطأ " ، وحديث هؤلاء بالصواب أولى ؛ لأنهم زادوا وأوضحوا وفسروا ما أجمله غيرهم وأهمله - هذه عبارته .
وقال القرطبي في " شرح " في حديث مسلم في صومه وقيامه : هذا الحديث اشتهر وكثرت رواته ، فكثر اختلافه حتى ظن من لا بصيرة عنده أنه مضطرب ، وليس كذلك ، فإنه إذا تتبع اختلافه وضم بعضه إلى بعض ، انتظمت صورته ، وتناسب مساقه ، إذ ليس فيه اختلاف تناقض ولا تهاتر ، بل يرجع اختلافه إلى أن بعضهم ذكر ما سكت عنه غيره ، وفصل بعض ما أجمله غيره ، انتهى . عبد الله بن عمرو بن العاص
ولا شك في أنه لا منافاة بين حديث السبعة وحديث ، فإنه يجمع بينهما بأن معنى حديث البخاري : قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ، فيقال : ما علمك .. إلى آخره - أن ذلك يقع في سبعة أيام ؛ لأنه لفظ مطلق صادق بالمرة وبأكثر ، فإذا روى الثقة أن ذلك يقع سبعا وجب قبوله وحمل آخر الحديث - وهو قوله : نم صالحا - على أن ذلك يقع عند انتهاء الفتنة ، وذلك بآخر يوم منها . البخاري