هذا أقرب ما يقرب به لأذهان الناس اليوم ، وإن كان المجادل ممن يكتب الحديث ولا فقه عنده يقال له : قد قالت الأقدمون : المحدث بلا فقه كعطار غير طبيب ، فالأدوية حاصلة في دكانه ولا يدري لماذا تصلح ، والفقيه بلا حديث كطبيب ليس بعطار يعرف ما تصلح له الأدوية إلا أنها ليست عنده ، وإني بحمد الله قد اجتمع عندي الحديث والفقه والأصول وسائر الآلات من العربية والمعاني والبيان وغير ذلك ، فأنا أعرف كيف أتكلم وكيف أقول وكيف أستدل وكيف أرجح ، وأما أنت يا أخي - وفقني الله وإياك - فلا يصلح لك ذلك لأنك لا تدري الفقه ولا الأصول ولا شيئا من الآلات ، والكلام في الحديث والاستدلال به ليس بالهين ولا يحل الإقدام على التكلم فيه لمن لم يجمع هذه العلوم ، فاقتصر على ما آتاك الله وهو أنك إذا سئلت عن حديث تقول : ورد أو لم يرد ، وصححه الحفاظ وحسنوه وضعفوه ، ولا يحل لك في الإفتاء سوى هذا القدر ، وخل ما عدا ذلك لأهله .
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وثم أمر آخر أخاطب به كل ذي مذهب من مقلدي المذاهب الأربعة وذلك أن مسلما روى في صحيحه عن ابن عباس وأبي بكر ، وصدرا من إمارة عمر ، فأقول لكل طالب علم : هل تقول أنت بمقتضى هذا الحديث وأن من قال لزوجته أنت طالق ثلاثا ، تطلق واحدة فقط ؟ فإن قال : نعم ، أعرضت عنه ، وإن قال : لا ، أقول له : فكيف تخالف ما ثبت في صحيح أن الطلاق الثلاث كان يجعل واحدة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فإن قال : لما عارضه ، أقول له : فاجعل هذا مثله ، والمقصود من سياق هذا كله أنه ليس كل حديث في صحيح مسلم يقال بمقتضاه لوجود المعارض له . مسلمالمسلك الثالث : . وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة من حفاظ المحدثين وغيرهم ، منهم أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به ابن شاهين والحافظ ، [ ص: 278 ] أبو بكر الخطيب البغدادي والسهيلي ، والقرطبي ، والمحب الطبري ، والعلامة ناصر الدين بن المنير ، وغيرهم ، واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ ، في السابق واللاحق ، والخطيب البغدادي والدارقطني ، كلاهما في غرائب وابن عساكر مالك بسند ضعيف عن عائشة قالت : حج بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فمر بي على عقبة بالحجون وهو باك حزين مغتم ، فنزل فمكث عني طويلا ثم عاد إلي وهو فرح مبتسم ، فقلت له ، فقال : ذهبت لقبر أمي فسألت الله أن يحييها فأحياها فآمنت بي وردها الله . هذا الحديث ضعيف باتفاق المحدثين ، بل قيل : إنه موضوع ، لكن الصواب ضعفه لا وضعه ، وقد ألفت في بيان ذلك جزءا مفردا ، وأورد السهيلي في الروض الأنف بسند قال أن فيه مجهولين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما له فآمنا به ثم أماتهما ، وقال السهيلي بعد إيراده : الله قادر على كل شيء وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء ، ونبيه - صلى الله عليه وسلم - أهل أن يختص بما شاء من فضله وينعم عليه بما شاء من كرامته ، وقال القرطبي : لا تعارض بين حديث الإحياء وحديث النهي عن الاستغفار ، فإن إحياءهما متأخر عن الاستغفار لهما بدليل حديث عائشة أن ذلك كان في حجة الوداع ، ولذلك جعله ابن شاهين ناسخا لما ذكر من الأخبار ، وقال العلامة ناصر الدين بن المنير المالكي في كتاب " المقتفى في شرف المصطفى " : قد وقع لنبينا - صلى الله عليه وسلم - إحياء الموتى نظير ما وقع لعيسى بن مريم ، إلى أن قال : وجاء في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما منع من الاستغفار للكفار دعا الله أن يحيي له أبويه ، فأحياهما له فآمنا به وصدقا وماتا مؤمنين ، وقال القرطبي : فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تزل تتوالى وتتتابع إلى حين مماته ، فيكون هذا مما فضله الله به وأكرمه ، قال : وليس إحياؤهما وإيمانهما به يمتنع عقلا ولا شرعا ، فقد ورد في القرآن إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله ، وكان عيسى - عليه السلام - يحيي الموتى ، وكذلك نبينا - عليه الصلاة والسلام - أحيا الله على يديه جماعة من الموتى ، قال : وإذا ثبت هذا فما يمتنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة كرامة في فضيلته ، وقال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس في سيرته بعد ذكر قصة الإحياء والأحاديث الواردة في التعذيب : وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات ما حاصله : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل راقيا في المقامات السنية صاعدا في الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة إليه وأزلفه بما خصه به لديه من الكرامة حين القدوم عليه ، فمن الجائز أن تكون هذه درجة حصلت له - صلى الله عليه وسلم - بعد أن لم تكن ، وأن يكون الإحياء والإيمان متأخرا عن تلك الأحاديث فلا تعارض . انتهى ، [ ص: 279 ] وقد أشار إلى ذلك بعض العلماء ، فقال بعد إيراده خبر حليمة وما أسداه - صلى الله عليه وسلم - إليها حين قدومها عليه :
هذا جزاء الأم عن إرضاعه لكن جزاء الله عنه عظيم
وكذاك أرجو أن يكون لأمه عن ذاك آمنة يد ونعيم
ويكون أحياها الإله وآمنت بمحمد فحديثها معلوم
فلربما سعدت به أيضا كما سعدت به بعد الشقاء حليم
حبا الله النبي مزيد فضل على فضل وكان به رؤوفا
فأحيا أمه وكذا أباه لإيمان به فضلا لطيفا
فسلم فالقديم بذا قدير وإن كان الحديث به ضعيفا
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية قال : حدثنا نوفل بن الفرات - وكان عاملا - قال : كان رجل من كتاب لعمر بن عبد العزيز الشام مأمونا عندهم استعمل رجلا على كورة الشام ، وكان أبوه يزن بالمنانية ، فبلغ ذلك فقال : ما حملك على أن تستعمل رجلا على كورة من كور المسلمين كان أبوه يزن بالمنانية ؟ قال : أصلح الله أمير المؤمنين وما علي ! كان أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - مشركا ، فقال عمر بن عبد العزيز عمر : آه ، ثم سكت ثم رفع رأسه فقال : أأقطع لسانه ؟ أأقطع يده ورجله ؟ أأضرب عنقه ؟ ثم قال : لا تلي لي شيئا ما بقيت ، وقد سئلت أن أنظم في هذه المسألة أبياتا أختم بها هذا التأليف فقلت :
إن الذي بعث النبي محمدا أنجى به الثقلين مما يجحف
ولأمه وأبيه حكم شائع أبداه أهل العلم فيما صنفوا
فجماعة أجروهما مجرى الذي لم يأته خبر الدعاة المسعف
والحكم فيمن لم تجئه دعوة أن لا عذاب عليه حكم يؤلف
فبذاك قال الشافعية كلهم والأشعرية ما بهم متوقف
وبسورة الإسراء فيه حجة وبنحو ذا في الذكر آي تعرف
ولبعض أهل الفقه في تعليله معنى أرق من النسيم وألطف
ونحا الإمام الفخر رازي الورى منحى به للسامعين تشنف
إذ هم على الفطرة التي ولدوا ولم يظهر عناد منهم وتخلف
قال الأولى ولدوا النبي المصطفى كل على التوحيد إذ يتحنف
من آدم لأبيه عبد الله ما فيهم أخو شرك ولا مستنكف
فالمشركون كما بسورة توبة نجس وكلهم بطهر يوصف
وبسورة الشعراء فيه تقلب في الساجدين فكلهم متحنف
هذا كلام الشيخ فخر الدين في أسراره هطلت عليه الذرف
فجزاه رب العرش خير جزائه وحباه جنات النعيم تزخرف
فلقد تدين في زمان الجاهلية فرقة دين الهدى وتحنفوا
زيد بن عمرو وابن نوفل هكذا الصديق ما شرك عليه يعكف
قد فسر السبكي بذاك مقالة للأشعري وما سواه مزيف
إذ لم تزل عين الرضا منه على الصديق وهو بطول عمر أحنف
عادت عليه صحبة الهادي فما في الجاهلية بالضلالة يقرف
فلأمه وأبوه أحرى سيما ورأت من الآيات ما لا يوصف
وجماعة ذهبوا إلى إحيائه أبويه حتى آمنا لا خوفوا
وروى ابن شاهين حديثا مسندا في ذاك لكن الحديث مضعف
هذي مسالك لو تفرد بعضها لكفى فكيف بها إذا تتألف
وبحسب من لا يرتضيها صمته أدبا ولكن أين من هو منصف
صلى الإله على النبي محمد ما جدد الدين الحنيف محنف
فائدة : قال الأزرقي في تاريخ مكة : حدثنا محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن عمران عن هشام بن عاصم الأسلمي قال : لما خرجت قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد فنزلوا بالأبواء قالت هند ابنة عتبة لأبي سفيان بن حرب : لو بحثتم قبر آمنة أم محمد فإنه بالأبواء ، فإن أسر أحدكم افتديتم به كل إنسان بإرب من آرابها ، فذكر ذلك أبو سفيان لقريش ، فقالت قريش : لا تفتح علينا هذا الباب إذا تبحث بنو بكر موتانا .
فائدة : من شعر عبد الله والد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أورده الصلاح الصفدي في تذكرته :
لقد حكم السارون في كل بلدة بأن لنا فضلا على سادة الأرض
وإن أبي ذو المجد والسؤدد الذي يشار به ما بين نشز إلى خفض
وجدي وآباء له أثلوا العلا قديما بطيب العرق والحسب المحض