( وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما يعملون )
ثم قال تعالى : ( وحسبوا ألا تكون فتنة ) في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو : ( أن لا تكون فتنة ) برفع نون " تكون " والباقون بالنصب ، وذكر الواحدي لهذا تقريرا حسنا ، فقال : الأفعال على ثلاثة أضرب : فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره [ ص: 48 ] نحو : العلم والتيقن والتبين ، فما كان مثل هذا يقع بعده " أن " الخفيفة الناصبة للفعل ، وذلك لأن الثقيلة تدل على ثبات الشيء واستقراره ، فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و " أن " الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة ، ومثاله من القرآن قوله تعالى : ( ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) [النور : 25] ، ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) [التوبة : 104] ، ( ألم يعلم بأن الله يرى ) [العلق : 14] والباء زائدة .
والضرب الثاني : فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار ، نحو : أطمع وأخاف وأرجو ، فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل ، قال تعالى : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي ) [الشعراء : 82] ، ( تخافون أن يتخطفكم الناس ) [الأنفال : 26] ، ( فخشينا أن يرهقهما ) [الكهف : 80] .
والضرب الثالث : فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو : حسب وأخواتها ، فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتا ومستقرا ، وتارة بمعنى العلم فيما يكون مستقرا .
إذا عرفت هذا فنقول : يمكن إجراء الحسبان ههنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار ; لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب ، ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع ، فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية ، وإذا كان اللفظ محتملا لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه في صحة كل واحدة من هاتين القراءتين ، فمن رفع قوله : ( أن لا تكون ) كان المعنى : أنه لا تكون ، ثم خففت المشددة وجعلت " لا " عوضا من حذف الضمير ، فلو قلت : علمت أن يقول : بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضا من حذف الضمير : نحو السين وسوف وقد ، كقوله ( علم أن سيكون ) [المزمل : 20] ووجه النصب ظاهر .
ثم قال الواحدي : وكلا الوجهين قد جاء به القرآن ، فمثل قراءة من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله : ( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ) [العنكبوت : 4] ، ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم ) [الجاثية : 21] ، ( الم أحسب الناس أن يتركوا ) [العنكبوت : 1 ، 2] ، ومثل قراءة من رفع ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم ) ، [الزخرف : 80] ( أيحسبون أنما نمدهم به ) [المؤمنون : 55] ، فهذه مخففة من الثقيلة ; لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها " لن " ومثل المذهبين في الظن قوله : ( تظن أن يفعل ) [القيامة : 25] ، ( إن ظنا أن يقيما ) [البقرة : 230] ومن الرفع قوله : ( وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن ) [الجن : 5] ، ( وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ) [الجن : 7] " فأن " ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله : ( علم أن سيكون ) [المزمل : 20] لأن " أن " الناصبة للفعل لا تجتمع مع " لن " ; لأن " لن " تفيد التأكيد ، و " أن " الناصبة تفيد عدم الثبات كما قررناه .
المسألة الثانية : أن باب حسب من الأفعال التي لا بد لها من مفعولين ، إلا أن قوله : ( وحسبوا ألا تكون فتنة ) جملة قامت مقام مفعولي حسب ; لأن معناه : وحسبوا الفتنة غير نازلة بهم .
المسألة الثالثة : ذكر المفسرون في " الفتنة " وجوها ، وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، ثم : منها القحط ، ومنها الوباء ، ومنها القتل ، ومنها العداوة ، ومنها البغضاء فيما بينهم ، ومنها الإدبار والنحوسة ، وكل ذلك قد وقع بهم ، وكل واحد من المفسرين حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه . عذاب الدنيا أقسام
[ ص: 49 ] واعلم أن حسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين :
الأول : أنهم كانوا موسى عليه السلام ، وكانوا يعتقدون أن الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر أنه يجب عليهم تكذيبه وقتله . يعتقدون أن النسخ ممتنع على شرع
والثاني : أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب .