الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ظاهر الآية يدل على أنه يجب أن يكون جزاء الصيد مثل المقتول ، إلا أنهم اختلفوا في المثل ، فقال الشافعي ومحمد بن الحسن : الصيد ضربان ، منه ما له مثل ، ومنه ما لا مثل له ، فما له مثل يضمن بمثله من النعم ، وما لا مثل له يضمن بالقيمة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل الواجب هو القيمة .

                                                                                                                                                                                                                                            وحجة الشافعي : القرآن والخبر والإجماع والقياس ، أما القرآن فقوله تعالى : ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) والاستدلال به من وجوه أربعة :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن جماعة من القراء قرأوا ( فجزاء ) بالتنوين ، ومعناه : فجزاء من النعم مماثل لما قتل ، فمن قال : إنه مثله في القيمة ، فقد خالف النص .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن قوما آخرين قرءوا ( فجزاء مثل ما قتل ) بالإضافة ، والتقدير : فجزاء ما قتل من النعم ، أي فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم ، فمن لم يوجبه فقد خالف النص .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : قراءة ابن مسعود : (فجزاؤه مثل ما قتل من النعم) وذلك صريح فيما قلناه .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن قوله تعالى : ( يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ) صريح في أن ذلك الجزاء الذي يحكم به ذوا عدل منهم ، يجب أن يكون هديا بالغ الكعبة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 75 ] فإن قيل : إنه يشتري بتلك القيمة هذا الهدي .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : النص صريح في أن ذلك الشيء الذي يحكم به ذوا عدل يجب أن يكون هديا ، وأنتم تقولون : الواجب هو القيمة ، ثم إنه يكون بالخيار إن شاء اشترى بها هديا يهدى إلى الكعبة ، وإن شاء لم يفعل ، فكان ذلك على خلاف النص ، وأما الخبر : فما روى جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع ، أصيد هو ؟ فقال : نعم ، وفيه كبش إذا أخذه المحرم ، وهذا نص صريح . وأما الإجماع : فهو أن الشافعي رحمه الله قال : تظاهرت الروايات عن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر في بلدان مختلفة وأزمان شتى أنهم حكموا في جزاء الصيد بالمثل من النعم ، فحكموا في النعامة ببدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة ، وفي الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الظبي بشاة ، وفي الأرنب بجفرة - وفي رواية بعناق - وفي الضب بسخلة ، وفي اليربوع بجفرة ; وهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبها بالصيد من النعم لا بالقيمة ، ولو حكموا بالقيمة لاختلف باختلاف الأسعار ، والظبي هو الغزال الكبير الذكر ، والغزال هو الأنثى ، واليربوع هو الفأرة الكبيرة تكون في الصحراء ، والجفرة الأنثى من أولاد المعز إذا انفصلت عن أمها ، والذكر جفر ، والعناق الأنثى من أولاد المعز إذا قويت قبل تمام الحول .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القياس فهو أن المقصود من الضمان جزاء الهالك ، ولا شك أن المماثلة كلما كانت أتم كان الجزاء أتم فكان الإيجاب أولى ، حجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى : لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة ، فكان المراد بالمثل في قوله : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) هو القيمة في هذه الصورة ، فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك ؛ لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن حقيقة المماثلة أمر معلوم ، والشارع أوجب رعاية المماثلة فوجب رعايتها بأقصى الإمكان ، فإن أمكنت رعايتها في الصورة وجب ذلك وإن لم يمكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية