( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) .
ثم قال تعالى : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ) .
[ ص: 63 ] واعلم أن الآية دالة على أن أحد الأمور الثلاثة على التخيير ، فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر ، وهو الصوم . الواجب في كفارة اليمين
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : معنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ، ولا يجوز له تركها جميعا ، ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة ، فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير ، ومن الفقهاء من قال : الواحد لا بعينه ، وهذا الكلام يحتمل وجهين :
الأول أن يقال : الواجب عليه أن يدخل في الوجود واحدا من هذه الثلاثة لا بعينه ، وهذا محال في العقول لأن الشيء الذي لا يكون معينا في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته ، وما كان كذلك فإنه يراد به التكليف .
الثاني أن يقال : الواجب عليه واحد معين في نفسه وفي علم الله تعالى ، إلا أنه مجهول العين عند الفاعل ، وذلك أيضا محال لأن كون ذلك الشيء واجبا بعينه في علم الله تعالى هو أنه لا يجوز تركه بحال ، وأجمعت الأمة على أنه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره ، والجمع بين هذين القولين جمع بين النفي والإثبات وهو محال ، وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه .
المسألة الثانية : قال رحمه الله : الشافعي ، وهو ثلثا من ، وهو قول نصيب كل مسكين مد ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم ، وقال رحمه الله : الواجب نصف صاع من الحنطة ، وصاع من غير الحنطة . أبو حنيفة
حجة أنه تعالى لم يذكر في الإطعام إلا قوله : ( الشافعي من أوسط ما تطعمون أهليكم ) وهذا الوسط إما أن يكون المراد منه ما كان متوسطا في العرف ، أو ما كان متوسطا في الشرع ، فإن كان المراد ما كان متوسطا في العرف فثلثا من من الحنطة ، إذا جعل دقيقا أو جعل خبزا فإنه يصير قريبا من المن ، وذلك كاف في قوت اليوم الواحد ظاهرا ، وإن كان المراد ما كان متوسطا في الشرع فلم يرد في الشرع له مقدار إلا في موضع واحد ، وهو ما روي . وذلك يدل على في خبر المفطر في نهار رمضان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بإطعام ستين مسكينا من غير ذكر مقدار ، فقال الرجل : ما أجد ، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه خمسة عشر صاعا ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : أطعم هذا ، وهو مد ، ولا يلزم كفارة الحلف لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل ، فكان قدرها معتبرا بصدقة الفطر ، وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد . تقدير طعام المسكين بربع الصاع
وحجة رحمه الله أنه تعالى قال : ( أبي حنيفة من أوسط ما تطعمون أهليكم ) والأوسط هو الأعدل ، والذي ذكره رحمه الله هو أدنى ما يكفي ، فأما الأعدل فيكون بإدام ، وهكذا روي عن الشافعي رحمهما الله : مد معه إدامه ، والإدام يبلغ قيمته قيمة مد آخر أو يزيد في الأغلب . ابن عباس
أجاب رحمه الله بأن قوله : ( الشافعي من أوسط ما تطعمون أهليكم ) يحتمل أن يكون المراد التوسط في القدر ، فإن الإنسان ربما كان قليل الأكل جدا يكفيه الرغيف الواحد ، وربما كان كثير الأكل فلا يكفيه المنوان ، إلا أن المتوسط الغالب أنه يكفيه من الخبز ما يقرب من المن ، ويحتمل أن يكون المراد التوسط في القيمة ، لا يكون غاليا كالسكر ، ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة ، والأوسط هو الحنطة والتمر والزبيب [ ص: 64 ] والخبز ، ويحتمل أن يكون المراد الأوسط في الطيب واللذاذة ، ولما كان اللفظ محتملا لكل واحد من الأمرين فنقول : يجب حمل اللفظ على ما ذكرناه لوجهين .
الأول : أن الإدام غير واجب بالإجماع ، فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام .
الثاني : أن هذا القدر واجب بيقين ، والباقي مشكوك فيه لأن اللفظ لا دلالة فيه عليه ، فأوجبنا اليقين وطرحنا الشك ، والله أعلم .
المسألة الثانية : قال رحمه الله : الواجب تمليك الطعام . وقال الشافعي رحمه الله : إذا غدى أو عشى عشرة مساكين جاز . أبو حنيفة
حجة : أن الواجب في هذه الكفارة أحد الأمور الثلاثة : إما الإطعام أو الكسوة أو الإعتاق ، ثم أجمعنا على أن الواجب في الكسوة التمليك ، فوجب أن يكون الواجب في الإطعام هو التمليك . الشافعي
حجة : أن الآية دلت على أن الواجب هو الإطعام ، والتغدية والتعشية هما إطعام بدليل قوله تعالى : ( أبي حنيفة ويطعمون الطعام على حبه ) [ الإنسان : 8 ] وقال : ( من أوسط ما تطعمون أهليكم ) وإطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك ، ويقال في العرف : فلان يطعم الفقراء : إذا كان يقدم الطعام إليهم ويمكنهم من أكله . وإذا ثبت أنه أمر بالإطعام وجب أن يكون كافيا .
أجاب رضي الله عنه : أن الواجب إما المد أو الأزيد ، والتغدية والتعشية قد تكون أقل من ذلك فلا يخرج عن العهدة إلا باليقين ، والله أعلم . الشافعي
المسألة الرابعة : قال رحمه الله : لا يجزئه إلا طعام عشرة ، وقال الشافعي رحمه الله : لو أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام جاز . أبو حنيفة
حجة رحمه الله : أن مدار هذا الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه ، وما كان كذلك فإنه يجب الاعتماد على مورد النص . الشافعي
المسألة الخامسة : معناها اللباس ، وهو كل ما يكتسى به ، فأما الكسوة في اللغة فهو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة ثوب واحد لكل مسكين ، وهو قول التي تجزي في الكفارة ابن عباس والحسن وهو مذهب ومجاهد رحمه الله . الشافعي
المسألة السادسة : المراد بالرقبة الجملة ، وقيل الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل ، فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الرقبة فك الرقبة ، ثم جرى ذلك على العتق ، ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقبات تجزيه . وقال رحمه الله : الشافعي كل رقبة سليمة من عيب يمنع من العمل ، صغيرة كانت أو كبيرة ، ذكرا أو أنثى ، بعد أن تكون مؤمنة ، ولا يجوز إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات ، ولا إعتاق المكاتب ، ولا شراء القريب ، وهذه المسائل قد ذكرناها في آية الظهار . الرقبة المجزية في الكفارة
المسألة السابعة : لقائل أن يقول : أي ؟ فائدة لتقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة
قلنا : له وجوه :
أحدها : أن المقصود منه التنبيه على أن هذه ; لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ . الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب
وثانيها : قدم الإطعام لأنه أسهل لكون الطعام أعم [ ص: 65 ] وجودا ، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف .
وثالثها : أن الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام ، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر ، أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته .