( قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ) المسألة الثالثة : ظاهر قوله تعالى : ( قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ) يدل على أن . والجمع بين هذا وبين قوله تعالى : ( الأنبياء لا يشهدون لأممهم فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء ) [ ص: 102 ] ( شهيدا ) [النساء : 41] مشكل . وأيضا قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [البقرة : 143] فإذا كانت فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم بذلك . أمتنا تشهد لسائر الناس
والجواب عنه من وجوه :
الأول : قال جمع من المفسرين : إن ، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور ، فهنالك يقولون : لا علم لنا ، فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم . وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف ؛ لأنه تعالى قال في للقيامة زلازل وأهوالا بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها : ( صفة أهل الثواب لا يحزنهم الفزع الأكبر ) [الأنبياء : 103] وقال أيضا : ( وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ) [عبس : 38] بل إنه تعالى قال : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [البقرة : 62] فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك ، ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يخافون البتة . والوجه الثاني : أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره : ما تقول في فلان ؟ فيقول : أنت أعلم به مني ، كأنه قيل : لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره ، وهذا أيضا ليس بقوي ؛ لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة ، وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تريد الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم .
والوجه الثالث في الجواب ، وهو الأصح ، وهو الذي اختاره أنهم إنما قالوا : لا علم لنا ؛ لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ، ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا ، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا . فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم . ابن عباس
والوجه الرابع في الجواب أنهم قالوا : لا علم لنا ، إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا ، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا ، والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا . فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا . وقوله : ( إنك أنت علام الغيوب ) يشهد بصحة هذين الجوابين .
الوجه الخامس ، وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة ، أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير ، والحاصل عند كل أحد من حال الغير إنما هو الظن لا العلم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " ، وقال عليه الصلاة والسلام : " " أو لفظ هذا معناه . فالأنبياء قالوا : لا علم لنا البتة بأحوالهم ، إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن ، والظن كان معتبرا في الدنيا ؛ لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن ، وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن ; لأن إنكم لتختصمون لدي ولعل بعضكم ألحن بحجته ، فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار . فلهذا السبب قالوا : ( الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور لا علم لنا إلا ما علمتنا ) ولم يذكروا البتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة .
الوجه السادس : أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل ، حكيم لا يسفه ، عادل لا يظلم ، علموا أن قولهم لا يفيد خيرا ، ولا يدفع شرا ، فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت .
[ ص: 103 ] المسألة الرابعة : قرئ ( علام الغيوب ) بالنصب . قال صاحب "الكشاف " والتقدير أن الكلام قد تم بقوله : ( إنك أنت ) أي أنت الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره . ثم نصب ( علام الغيوب ) على الاختصاص ، أو على النداء ، أو وصفا لاسم (إن) .
المسألة الخامسة : دلت الآية على جواز ، كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه ، أما العلامة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث . إطلاق لفظ العلام عليه