ثم قال بعده : ( وله ما في السماوات والأرض ) وهذا حق ، لأنه لما كان الإله واحدا ، والواجب لذاته واحدا ، كان كل ما سواه حاصلا بتخليقه وتكوينه وإيجاده ، فثبت بهذا البرهان صحة قوله : ( وله ما في السماوات والأرض ) واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن ، لأن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض ، فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى ، وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته ، لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة ، لا لغرض الطاعة ، فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه ، وهو المطلوب . أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
ثم قال بعده : ( وله الدين واصبا ) الدين ههنا الطاعة ، والواصب الدائم . يقال : وصب الشيء يصب وصوبا إذا دام ، قال تعالى : ( ولهم عذاب واصب ) [ الصافات : 9 ] ويقال : واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم ، ومفازة واصبة أي : بعيدة لا غاية لها . ويقال للعليل واصب ، ليكون ذلك المرض لازما له . قال : ليس من أحد يدان له ويطاع ، إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه ، فإن [ ص: 41 ] طاعته واجبة أبدا . ابن قتيبة
واعلم أن قوله ( واصبا ) حال ، والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل . وأقول : الدين قد يعني به الانقياد ، يقال : يا من دانت له الرقاب أي : انقادت ، فقوله ( وله الدين واصبا ) أي : انقياد كل ما سواه له لازم أبدا ، لأن انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته ، والممكن لذاته يلزمه أن يكون محتاجا إلى السبب في طرفي الوجود والعدم ، والماهيات يلزمها الإمكان لزوما ذاتيا ، والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا ، ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا ، فهذه الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى اتصافا دائما واجبا لازما ممتنع التغير . وأقول : في الآية دقيقة أخرى ، وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح ، واختلفوا في الممكن حال بقائه ، هل هو محتاج إلى السبب ؟ قال المحققون : إنه محتاج لأن علة الحاجة هي الإمكان ، والإمكان من لوازم الماهية فيكون حاصلا للماهية حال حدوثها وحال بقائها ، فتكون علة الحاجة حال حدوث الممكن وحال بقائه ، فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها .
إذا عرفت هذا فقوله : ( وله ما في السماوات والأرض ) معناه : أن كل ما سوى الحق فإنه محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود ، أو من الوجود إلى العدم إلى مرجح ومخصص ، وقوله ، ( وله الدين واصبا ) معناه أن هذا الانقياد وهذا الاحتياج حاصل دائما أبدا ، وهو إشارة إلى ما ذكرناه من أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح والمخصص ، وهذه دقائق من أسرار العلوم الإلهية مودعة في هذه الألفاظ الفائضة من عالم الوحي والنبوة .
ثم قال تعالى ( أفغير الله تتقون ) والمعنى : أنكم بعدما عرفتم أن إله العالم واحد وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه ، ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه ، فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى ؟ ! فلهذا المعنى قال على سبيل التعجب : ( أفغير الله تتقون )