المسألة الثانية : اختلف في كيفية ذلك الإسراء ، فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم ، والأقلون قالوا : إنه ما أسري إلا بروحه . أسري بجسد رسول الله
حكي عن في تفسيره ، عن محمد بن جرير الطبري حذيفة أنه قال : ذلك رؤيا ، وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أسري بروحه ، وحكي هذا القول أيضا عن - رضي الله عنها - وعن عائشة معاوية - رضي الله عنه - .
واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين :
أحدهما : في إثبات الجواز العقلي .
الثاني : في الوقوع .
أما المقام الأول : وهو إثبات الجواز العقلي ، فنقول : الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها . والله تعالى قادر على جميع الممكنات ، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع ، فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين :
المقدمة الأولى : في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ، ويدل عليه وجوه :
الوجه الأول : أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع ، فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع . وبتقدير أن يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع منمكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر ، فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان ؛ فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه ، وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان ، والله أعلم .
الوجه الثاني : وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة . ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع ، وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه .
الوجه الثالث : أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش ، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول ، كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا ، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة ، فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد ، يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة من العرش إلى مكة ، ولما كان ذلك باطلا كان ما ذكروه أيضا باطلا .
فإن قالوا : نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، وإنما نقول : المراد من نزول جبريل - عليه السلام - هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد صلى الله عليه وسلم حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرا متجليا في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام .
قلنا : تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء ، فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه [ ص: 119 ] الصلاة والسلام جسم ، وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة ، وإذا كان كذلك كان الإلزام المذكور قويا ، روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل ، وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له : أبو بكر : إن كان قد قال ذلك فهو صادق ، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الرسول له تلك التفاصيل ، فكلما ذكر شيئا ، قال إن صاحبك يقول كذا وكذا ، فقال أبو بكر : صدقت . فلما تمم الكلام قال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله حقا ، فقال له الرسول : وأنا أشهد أنك الصديق حقا ، وحاصل الكلام أن أبا بكر - رضي الله عنه - كأنه قال : لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا ، فكيف أكذبه في هذا ؟
الوجه الرابع : أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ، ويسلمون أنه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ، ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم ، فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس ، فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى ، وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان ، أما الذين يقولون : إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة ، وأنه ليس بجسم ولا جسماني ، فهذا الإلزام غير وارد عليهم ، إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل .
فإن قالوا : هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة ؛ لأنهم أجسام لطيفة ، ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها ، أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه ؟
قلنا : نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر ، وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضا ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني ، فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .
الوجه الخامس : أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة ، قال تعالى في سليمان عليه الصلاة والسلام : ( صفة مسير غدوها شهر ورواحها شهر ) [ سبأ : 12] . بل نقول : الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة ، وذلك أيضا يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة .
الوجه السادس : أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر ؛ بدليل قوله تعالى : ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) [النمل : 40] . وإذا كان ممكنا في حق بعض الناس ، علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود .
الوجه السابع : أن من الناس من يقول : الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ، ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه ، فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة ، وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات ، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه .
[ ص: 120 ] المقدمة الثانية : في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممتنعا ، والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها ، فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام ، وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صلى الله عليه وسلم أمر ممكن الوجود في نفسه .
وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات ، وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكن ، فوجب كونه تعالى قادرا عليه ، وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا . المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه
أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب ، إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام ، بل هو حاصل في جميع المعجزات ، فانقلاب العصا ثعبانا تبلع سبعين ألف حبل من الحبال والعصي ، ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت - أمر عجيب ! وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم ، وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب ، وكذا القول في جميع المعجزات ، فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع ، لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات ، وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة ، وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال ، فكذا ههنا ، فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع ، والله أعلم .