المسألة الأولى : " هات " صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر .
المسألة الثانية : دلت الآية على أن ، وذلك من أصدق الدلائل على المدعي سواء ادعى نفيا أو إثباتا ، فلا بد له من الدليل والبرهان ، قال الشاعر : بطلان القول بالتقليد
من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه
أما قوله تعالى : ( بلى ) ففيه وجوه :
الأول : أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة .
الثاني : أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهانا .
الثالث : كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة ، بلى ، إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة ، فيكون ذلك ترغيبا لهم في الإسلام ، وبيانا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة ، لكي يقلعوا عما هم عليه ، ويعدلوا إلى هذه الطريقة ، فأما معنى : ( من أسلم وجهه لله ) فهو إسلام النفس لطاعة الله ، وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه :
أحدها : لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس والفكر والتخيل ، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى .
وثانيها : أن الوجه قد يكنى به عن النفس ، قال الله تعالى : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ الليل : 20 ] .
وثالثها : أن أعظم العبادات السجدة ، وهي إنما تحصل بالوجه ، فلا جرم خص الوجه بالذكر ، ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
فيكون المرء واهبا نفسه لهذا الأمر بإذلالها ، وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء ، وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته ، وتجنب معاصيه ، ومعنى " لله " أي : خالصا لله لا يشوبه شرك ، [ ص: 5 ] فلا يكون عابدا مع الله غيره ، أو معلقا رجاءه بغيره ، وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة .