الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة ؛ قال الجبائي : يوصف الله تعالى بأنه واحد من وجوه أربعة : لأنه ليس بذي أبعاض ، ولا بذي أجزاء ، ولأنه منفرد بالقدم ، ولأنه منفرد بالإلهية ، ولأنه منفرد بصفات ذاته ، نحو كونه عالما بنفسه ، وقادرا بنفسه ، وأبو هاشم يقتصر على ثلاثة أوجه : فجعل تفرده بالقدم وبصفات الذات وجها واحدا ، قال القاضي : وفي هذه الآية المراد تفرده بالإلهية فقط ؛ لأنه أضاف التوحيد إلى ذلك ، ولذلك عقبه بقوله ( لا إله إلا هو ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال أصحابنا : إنه سبحانه وتعالى واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له ، أما أنه واحد في ذاته فلأن تلك الذات المخصوصة التي هي المشار إليها بقولنا : هو الحق سبحانه وتعالى إما أن تكون حاصلة في شخص آخر سواه ، أو لا تكون ، فإن كان الأول كان امتياز ذاته المعينة عن المعنى الآخر لا بد وأن يكون بقيد زائد ، فيكون هو في نفسه مركبا بما به الاشتراك وما به الامتياز ، فيكون ممكنا معلولا مفتقرا وذلك محال ، وإن لم يكن فقد ثبت أنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له ، وأما أنه واحد في صفاته فلأن موصوفيته سبحانه بصفات متميزة عن موصوفية غيره بصفات من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن كل ما عداه فان ؛ لأن حصول صفاته له لا تكون من نفسه ، بل من غيره ، وهو سبحانه يستحق حصول صفاته لنفسه لا لغيره .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن صفات غيره مختصة بزمان دون زمان ؛ لأنها حادثة ، وصفات الحق ليست كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن صفات الحق غير متناهية بحسب المتعلقات ، فإن علمه متعلق بجميع المعلومات وقدرته متعلقة بجميع المقدورات ، بل له في كل واحد من المعلومات الغير المتناهية معلومات غير متناهية ؛ لأنه يعلم في ذلك الجوهر الفرد أنه كيف كان ، ويكون حاله بحسب كل واحد من الأحياز المتناهية ، وبحسب كل واحد من الصفات المتناهية ، فهو سبحانه واحد في صفاته من هذه الجهة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنه سبحانه ليست موصوفية ذاته بتلك الصفات بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذاته محلا لها ، ولا أيضا بحسب كون ذاته مستكملة بها ؛ لأنا بينا أن الذات كالمبدأ لتلك الصفات ، فلو كانت الذات مستكملة بالصفات لكان المبدأ ناقصا لذاته مستكملا بالممكن لذاته ، وهو محال ، بل ذاته مستكملة لذاته ، ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال معه ، إلا أن التقسيم يعود في نفس الاستكمال فينتهي إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 157 ] خامسها : أنه لا خبر عند العقول من كنه صفاته ، كما لا خبر عندها من كنه ذاته ؛ وذلك لأنا لا نعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي لأجله ظهر الإحكام والإتقان في عالم المخلوقات ، فالمعلوم من علمه أنه أمر ما ، لا ندري أنه ما هو ، ولكن نعلم منه أنه يلزمه هذا الأثر المحسوس ، وكذا القول في كونه قادرا وحيا ، فسبحان من ردع بنور عزته أنوار العقول والأفهام ، وأما إنه سبحانه وتعالى واحد في أفعاله فالأمر ظاهر ؛ لأن الموجود إما واجب وإما ممكن ، فالواجب هو هو ، والممكن ما عداه ، وكل ما كان ممكنا فإنه يجوز أن لا يوجد ما لم يتصل بالواجب ، ولا يختلف هذا الحكم باختلاف أقسام الممكنات ، سواء كان ملكا أو ملكا أو كان فعلا للعباد ، أو كان غير ذلك ، فثبت أن كل ما عداه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته واستيلائه ، وعند هذا تدرك شمة من روائح أسرار قضائه وقدره ، ويلوح لك شيء من حقائق قوله : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [القمر : 49] وتعرف أن الموجود ليس البتة إلا ما هو هو ، وما هو له ، وإذا وقعت سفينة الفكرة في هذه اللجة ، فلو سارت إلى الأبد لم تقف ؛ لأن السير إنما يكون من شيء إلى شيء ، فالشيء الأول متروك ، والشيء الثاني مطلوب ، وهما متغايران ، فأنت بعد خارج عن عالم الفردانية والوحدانية ، فأما إذا وصلت إلى برزخ عالم الحدوث والقدم ، فهناك تنقطع الحركات ، وتضمحل العلامات والأمارات ، ولم يبق في العقول والألباب إلا مجرد أنه هو ، فيا هو ويا من لا هو إلا هو أحسن إلى عبدك الضعيف ؛ فإن عبدك بفنائك ومسكينك ببابك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية