الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء بين جملة الصابرين على هذه الأمور بقوله تعالى : ( وبشر الصابرين ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أن الصبر واجب على هذه الأمور إذا كان من قبله تعالى ؛ لأنه يعلم أن كل ذلك عدل وحكمة ، فأما من لم يكن محققا في الإيمان كان كمن قال فيه : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) [ الحج : 11 ] فأما ما يكون من جانب الظلمة فلا يجب الصبر عليه ، مثاله : أن المراهق يلزمه أن يصبر على ما يفعله به أبوه من التأديب ، ولو فعله به غيره لكان له أن يمانع بل يحارب ، وكذا في العبد مع مولاه فما يدبر تعالى عباده عليه ، ليس ذلك إلا حكمة وصوابا بخلاف ما يفعل العباد من الظلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الخطاب في ( وبشر ) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يتأتى منه البشارة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال الشيخ الغزالي - رحمه الله - : اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة ، أما في البهائم فلنقصانها ، وأما في الملائكة فلكمالها ، بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات ، وليس لشهواتها عقل يعارضها ، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا ، وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية ، والابتهاج بدرجة القرب منها ، ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها ، حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر ، وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة ، ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ، ثم يظهر فيه شهوة اللعب ، ثم شهوة النكاح ، وليس له قوة الصبر البتة ، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر ، قام [ ص: 138 ] القتال بينهما لتضاد مطالبهما ، أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة ، والإعراض عن الدار الآخرة ، وعقلا يدعوه إلى الإعراض عنها ، وطلب اللذات الروحانية الباقية ، فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة [ مانعة له ] عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية ، صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل ، فيسمى ذلك الصد والمنع صبرا ، ثم اعلم أن الصبر ضربان . أحدهما : بدني ، كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه ، وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة أو بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والألم العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : هو الصبر النفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الشهوة ومشتهيات الطبع ، ثم هذا الضرب إن كان صبرا عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر ، فإن كان في مصيبة اقتصر عليه باسم الصبر ويضاده حالة تسمى الجزع والهلع ، وهو إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب وغيرها ، وإن كان في حال الغنى يسمى ضبط النفس ويضاده حالة تسمى : البطر . وإن كان في حرب ومقاتلة يسمى : شجاعة ، ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى : حلما ، ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي : سعة الصدر ، ويضاده الضجر والندم وضيق الصدر ، وإن كان في إخفاء كلام يسمى : كتمان النفس ويسمى صاحبه : كتوما ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهدا ، ويضاده الحرص ، وإن كان على قدر يسير من المال سمي بالقناعة ويضاده الشره ، وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمى الكل صبرا فقال : ( والصابرين في البأساء ) [ البقرة : 177 ] أي : المصيبة . ( والضراء ) أي : الفقر : ( وحين البأس ) [ البقرة : 177 ] أي : المحاربة : ( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [ البقرة : 177 ] قال القفال - رحمه الله - : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك لأن ذلك غير ممكن ، إنما الصبر هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، فإذا كظم الحزن وكف النفس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابرا ، وإن ظهر دمع عين أو تغير لون ، قال - عليه السلام - : " الصبر عند الصدمة الأولى " وهو كذلك ؛ لأن من ظهر منه في الابتداء ما لا يعد معه من الصابرين ثم صبر ، فذلك يسمى سلوا وهو مما لا بد منه ، قال الحسن : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية