الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اللام في قوله : ( إلا لنعلم ) لام الغرض ، والكلام في أنه هل يصح الغرض على الله أو لا يصح ؟ وبتقدير أن لا يصح فكيف تأويل هذا الكلام فقد تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : وما جعلنا كذا وكذا إلا لنعلم ، كذا يوهم أن العلم بذلك الشيء لم يكن حاصلا ، فهو فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم ، وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يعلم تلك الأشياء قبل وقوعها ، ونظيره في الإشكال قوله : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) [ محمد : 31 ] وقوله : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) [ الأنفال : 66 ] وقوله : ( لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] وقوله : ( فليعلمن الله الذين صدقوا ) [ العنكبوت : 3 ] وقوله : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) [ آل عمران : 142 ] وقوله : ( وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ) [ سبأ : 21 ] والكلام في هذه المسألة مر مستقصى في قوله : ( وإذ ابتلى ) والمفسرون أجابوا عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 95 ] أحدها : أن قوله : ( إلا لنعلم ) معناه : إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك : فتحنا البلدة الفلانية بمعنى : فتحها أولياؤنا ، ومنه يقال : فتح عمر السواد ، ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - فيما يحكيه عن ربه : " استقرضت عبدي فلم يقرضني ، وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول : وادهراه وأنا الدهر " وفي الحديث : " من أهان لي وليا فقد أهانني " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : معناه : ليحصل المعدوم فيصير موجودا ، فقوله : ( إلا لنعلم ) معناه : إلا لنعلمه موجودا ، فإن قيل : فهذا يقتضي حدوث العلم ، قلنا : اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد ، الخلاف فيه مشهور .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق ، فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون ، فسمى التمييز علما ؛ لأنه أحد فوائد العلم وثمراته .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : ( إلا لنعلم ) معناه : إلا لنرى ، ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم كقوله : ( ألم تر كيف ) ورأيت ، وعلمت ، وشهدت ، ألفاظ متعاقبة .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : ما ذهب إليه الفراء : وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ، ومثاله أن جاهلا وعاقلا اجتمعا ، فيقول الجاهل : الحطب يحرق النار ، ويقول العاقل : بل النار تحرق الحطب ، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه : لنعلم أينا الجاهل ، فكذلك قوله : ( إلا لنعلم ) إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام : الاستمالة والرفق في الخطاب ، كقوله : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى ) [ سبأ : 24 ] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسك ترقيقا للخطاب ورفقا بالمخاطب ، فكذا قوله : ( إلا لنعلم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم ، إذ العدل يوجب ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : أن العلم صلة زائدة ، فقوله : ( إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) معناه : إلا ليحصل اتباع المتبعين ، وانقلاب المنقلبين ، ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني ، أي ما كان هذا مني ، والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها ، فمن الناس من قال : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي إلى الكعبة ، فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ، ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم ، وأما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا : هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه ، روى القفال عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم ، وقالوا : مرة هاهنا ومرة هاهنا ، وقال السدي : لما توجه النبي - عليه الصلاة والسلام - نحو المسجد الحرام اختلف الناس ؛ فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها ، وقال المسلمون : لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس ، وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ، وقال المشركون : تحير في دينه ، [ ص: 96 ] واعلم أن هذا القول الأخير أولى ؛ لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة ، وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة ، فقال : ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) فكان حمله عليه أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله : ( ممن ينقلب على عقبيه ) استعارة ، ومعناه : من يكفر بالله ورسوله ، ووجه الاستعارة : أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه ، فوصفوا بذلك ، كما قال تعالى : ( ثم أدبر واستكبر ) [ المدثر : 23 ] وكما قال : ( كذب وتولى ) [ طه : 48 ] وكل ذلك تشبيه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية