الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أن الضمير لا بد أن يكون عائدا إلى مذكور سابق ، فالضمير إما أن يكون متقدما على المذكور لفظا ومعنى ، وإما أن يكون متأخرا عنه لفظا ومعنى ، وإما أن يكون متقدما لفظا ومتأخرا معنى ، وإما أن يكون بالعكس منه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القسم الأول : وهو أن يكون متقدما لفظا ومعنى فالمهشور عند النحويين أنه غير جائز ، وقال ابن جني بجوازه ، واحتج عليه بالشعر والمعقول ، أما الشعر فقوله :


                                                                                                                                                                                                                                            جزى ربه عني عدي بن حاتم جزاء الكلاب العاويات وقد فعل



                                                                                                                                                                                                                                            وأما المعقول فلأن الفاعل مؤثر والمفعول قابل وتعلق الفعل بهما شديد ، فلا يبعد تقديم أي واحد منهما كان على الآخر في اللفظ ، ثم أجمعنا على أنه لو قدم المنصوب على المرفوع في اللفظ فإنه جائز ، فكذا إذا لم يقدم مع أن ذلك التقديم جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الثاني : وهو أن يكون الضمير متأخرا لفظا ومعنى ، وهذا لا نزاع في صحته ، كقولك : ضرب زيد غلامه .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الثالث : أن يكون الضمير متقدما في اللفظ متأخرا في المعنى وهو كقولك : ضرب غلامه زيد ، فههنا الضمير وإن كان متقدما في اللفظ لكنه متأخر في المعنى ، لأن المنصوب متأخر عن المرفوع في التقدير ، فيصير كأنك قلت : زيد ضرب غلامه فلا جرم كان جائزا .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الرابع : أن يكون الضمير متقدما في المعنى متأخرا في اللفظ ، وهو كقوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه ) فإن المرفوع مقدم في المعنى على المنصوب ، فيصير التقدير : وإذ ابتلى ربه إبراهيم ، إلا أن الأمر وإن كان كذلك بحسب المعنى لكن لما لم يكن الضمير متقدما في اللفظ بل كان متأخرا لا جرم كان جائزا حسنا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قرأ ابن عامر : "إبراهام" بألف بين الهاء والميم ، والباقون " إبراهيم " وهما لغتان ، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة رضي الله عنه " إبراهيم ربه" برفع إبراهيم ونصب ربه ، والمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : اختلف المفسرون في أن ظاهر اللفظ هل يدل على تلك الكلمات أم لا ؟ فقال بعضهم : اللفظ يدل عليها وهي التي ذكرها الله تعالى من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بإبعاث محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن هذه الأشياء أمور شاقة ، أما الإمامة فلأن المراد منها ههنا هو النبوة ، وهذا التكليف يتضمن مشاق عظيمة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يتحمل جميع المشاق والمتاعب في تبليغ الرسالة ، وأن لا يخون في أداء شيء منها ، ولو لزمه القتل بسبب ذلك ولا شك أن ذلك من أعظم المشاق ، ولهذا قلنا : إن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره ، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف [ ص: 35 ] شدة البلوى فيه ، ثم إنه يتضمن إقامة المناسك ، وقد امتحن الله الخليل عليه الصلاة والسلام بالشيطان في الموقف لرمي الجمار وغيره ، وأما اشتغاله بالدعاء في أن يبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان ، فهذا مما يحتاج إليه إخلاص العمل لله تعالى ، وإزالة الحسد عن القلب بالكلية ، فثبت أن الأمور المذكورة عقيب هذه الآية : تكاليف شاقة شديدة ، فأمكن أن يكون المراد من ابتلاء الله تعالى إياه بالكلمات هو ذلك ، ثم الذي يدل على أن المراد ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف من حروف العطف فلم يقبل ، وقال : إني جاعلك للناس إماما ، بل قال : ( إني جاعلك ) فدل هذا على أن ذلك الابتلاء ليس إلا التكليف بهذه الأمور المذكورة ، واعترض القاضي على هذا القول فقال : هذا إنما يجوز لو قال الله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ، ثم إنه تعالى قال له بعد ذلك : إني جاعلك للناس إماما فأتمهن ، إلا أنه ليس كذلك ، بل ذكر قوله : ( إني جاعلك للناس إماما ) بعد قوله : ( فأتمهن ) وهذا يدل على أنه تعالى امتحنه بالكلمات وأتمها إبراهيم ، ثم إنه تعالى قال له بعد ذلك : ( إني جاعلك للناس إماما ) ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط ، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، كأن الله تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء ، فأخبر الله تعالى عنه أنه ابتلاه بأمور على الإجمال ، ثم أخبر عنه أنه أتمها ، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل ، وهذا مما لا بعد فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن ظاهر الآية لا دلالة فيه على المراد بهذه الكلمات وهذا القول يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : بكلمات كلفه الله بهن ، وهي أوامره ونواهيه فكأنه تعالى قال : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) مما شاء كلفه بالأمر بها .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : بكلمات تكون من إبراهيم يكلم بها قومه ، أي يبلغهم إياها ، والقائلون بالوجه الأول اختلفوا في أن ذلك التكليف بأي شيء كان على أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال ابن عباس : هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه وهي سنة في شرعنا ، خمس في الرأس وخمس في الجسد ، أما التي في الرأس : فالمضمضة ، والاستنشاق وفرق الرأس ، وقص الشارب ، والسواك ، وأما التي في البدن : فالختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، والاستنجاء بالماء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قال بعضهم : ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام ، عشر منها في سورة براءة : ( التائبون العابدون ) [التوبة : 112] إلى آخر الآية ، وعشر منها في سورة الأحزاب ( إن المسلمين والمسلمات ) [الأحزاب : 35] إلى آخر الآية ، وعشر منها في المؤمنون : ( قد أفلح المؤمنون ) [المؤمنون : 1] إلى قوله : ( أولئك هم الوارثون ) [المؤمنون : 10] وروي عشر في : ( سأل سائل ) [المعارج : 1] إلى قوله : ( والذين هم على صلاتهم يحافظون ) [المعارج : 34] فجعلها أربعين سهما عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أمره بمناسك الحج ، كالطواف والسعي والرمي والإحرام وهو قول قتادة وابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : ابتلاه بسبعة أشياء : بالشمس ، والقمر ، والكواكب ، والختان على الكبر ، والنار ، وذبح الولد ، والهجرة ، فوفى بالكل فلهذا قال الله تعالى : ( وإبراهيم الذي وفى ) [النجم : 37] عن الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن المراد ما ذكره في قوله : ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) [البقرة : 131] .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : المناظرات الكثيرة في التوحيد مع أبيه وقومه ومع نمروذ والصلاة والزكاة والصوم ، وقسم الغنائم ، والضيافة ، والصبر عليها . قال القفال رحمه الله : وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كل ما في فعله كلفة وشدة ومشقة ، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ويتناول كل واحد منها ، فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل ، ولو ثبتت الرواية [ ص: 36 ] في البعض دون البعض فحينئذ يقع التعارض بين هذه الروايات ، فوجب التوقف والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : قال القاضي : هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة ، لأن الله تعالى نبه على أن قيامه عليه الصلاة والسلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماما ، والسبب مقدم على المسبب ، فوجب كون هذا الابتلاء متقدما في الوجود على صيرورته إماما وهذا أيضا ملائم لقضايا العقول ، وذلك لأن الوفاء من شرائط النبوة لا يحصل إلا بالإعراض عن جميع ملاذ الدنيا وشهواتها وترك المداهنة مع الخلق وتقبيح ما هم عليه من الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة ، وتحمل الأذى من جميع أصناف الخلق ، ولا شك أن هذا المعنى من أعظم المشاق وأجل المتاعب ، ولهذا السبب يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم أجرا من أمته ، وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشاقة ، فلما وفى عليه الصلاة والسلام بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال آخرون : إنه بعد النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفا بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك ، أجاب القاضي عنه بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عليه السلام بهذه التكاليف الشاقة ، فلما تمم ذلك جعله نبيا مبعوثا إلى الخلق ، إذا عرفت هذه المسألة فنقول قال القاضي : يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكره الحسن من حديث الكوكب والشمس والقمر ، فإنه عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله بذلك قبل النبوة ، أما ذبح الولد والهجرة والنار فكل ذلك كان بعد النبوة ، وكذا الختان ، فإنه عليه السلام يروى أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين سنة . ثم قال : فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله : ( أتمهن ) أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : الضمير المستكن في ( فأتمهن ) في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى فقام بهن حق القيام ، وأداهن أحسن التأدية ، من غير تفريط وتوان . ونحوه : ( وإبراهيم الذي وفى ) [النجم : 37 ] وفي الأخرى لله تعالى بمعنى : فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية