( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون )
قوله تعالى : ( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون )
اعلم أن هذا هو النوع العاشر اليهود والنصارى والمشركين ، واعلم أن الظاهر قوله تعالى : ( من مقابح أفعال وقالوا اتخذ الله ولدا ) أن يكون راجعا إلى قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ) وقد ذكرنا أن منهم من تأوله على النصارى ، ومنهم من تأوله على مشركي العرب ، ونحن قد تأولناه على اليهود ، وكل هؤلاء أثبتوا الولد لله تعالى ؛ لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، ومشركو العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات ، قال رضي الله عنهما : إنها نزلت [ ص: 22 ] في ابن عباس كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ووهب بن يهوذا ، فإنهم جعلوا عزيرا ابن الله ، أما قوله تعالى : ( سبحانه ) فهو كلمة تنزيه ينزه بها نفسه عما قالوه ، كما قال تعالى في موضع آخر : ( سبحانه أن يكون له ولد ) [ النساء : 171 ] فمرة أظهره ، ومرة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه ، واحتج على هذا التنزيه بقوله : ( بل له ما في السماوات والأرض ) [ البقرة : 116 ] ووجه الاستدلال بهذا على فساد مذهبهم من وجوه :
الأول : أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته محدث ، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود ، والمخلوق لا يكون ولدا ، أما بيان أن ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته ، فلأنه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب الوجود ، ولامتاز كل واحد منهما عن الآخر بما به التعين ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، ويلزم تركب كل واحد منهما من قيدين ، وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه من غيره ، فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، فكل واحد من الموجودين الواجبين لذاتهما ممكن لذاته ، هذا خلف ، ثم نقول : إن كان كل واحد من ذينك الجزأين واجبا عاد التقسيم المذكور فيه ، ويفضي إلى كونه مركبا من أجزاء غير متناهية ، وذلك محال ، ومع تسليم أنه غير محال فالمقصود حاصل ؛ لأن كل كثرة فلا بد فيها من الواحد ، فتلك الآحاد إن كانت واجبة لذواتها كانت مركبة على ما ثبت ، فالبسيط مركب ، هذا خلف ، وإن كانت ممكنة كان المركب المفتقر إليها أولى بالإمكان ، فثبت بهذا البرهان أن كل ما عدا الموجود الواجب ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر ، وتأثير ذلك المؤثر فيه إما أن يكون حال عدمه أو حال وجوده ، فإن كان الأول فذلك الممكن محدث ، وإن كان الثاني فاحتياج ذلك الموجود إلى المؤثر ، إما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه ، والأول محال ؛ لأنه يقتضي إيجاد الوجود ، فتعين الثاني ، وذلك يقتضي كون ذلك الممكن محدثا ، فثبت أن كل ما سوى الله محدث مسبوق بالعدم ، وأن وجوده إنما حصل بخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه ، فثبت أن كل ما سواه فهو عبده وملكه ، فيستحيل أن يكون شيء مما سواه ولدا له ، وهذا البرهان إنما استفدناه من قوله : ( بل له ما في السماوات والأرض ) أي : له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع .
والثاني : أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده إما أن يكون قديما أزليا أو محدثا ، فإن كان أزليا لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولدا والآخر والدا أولى من العكس ، فيكون ذلك الحكم حكما مجردا من غير دليل ، وإن كان الولد حادثا كان مخلوقا لذلك القديم وعبدا له ، فلا يكون ولدا له .
والثالث : أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد ، فلو فرضنا له ولدا لكان مشاركا له من بعض الوجوه ، وممتازا عنه من وجه آخر ، وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركبا ومحدثا ، وذلك محال ، فإذن المجانسة ممتنعة ، فالولدية ممتنعة .
الرابع : أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه ، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة ، فإذا كان كل ذلك محالا كان ، واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد - قولهم ، واحتج عليهم بهذه الحجة ، وهي أن كل من في السماوات والأرض عبد له ، وبأنه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، وقال في إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالا مريم : ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) [ ص: 23 ] ( ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) [ مريم : 35 ] وقال أيضا في آخر هذه السورة : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا ) [ مريم : 88 ] ( لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [ مريم : 89-93 ] فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكا لما في السماوات والأرض ، وفي سورة مريم بكونه مالكا لمن في السماوات والأرض على ما قال : ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [ مريم : 93 ] قلنا : قوله تعالى في هذه السورة : ( بل له ما في السماوات والأرض ) - أتم ؛ لأن كلمة " ما " تتناول جميع الأشياء ،