أما قوله : ( سيقول السفهاء     ) ففيه قولان : 
الأول : وهو اختيار القفال  أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهرا لكنه قد يستعمل في الماضي أيضا ، كالرجل يعمل عملا فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول : أنا أعلم أنهم سيطعنون علي فيما فعلت ، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد ، فإذا ذكروه مرة فسيذكرونه بعد ذلك مرة أخرى ، فصح على هذا التأويل أن يقال : سيقول السفهاء من الناس ذلك ، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية . 
القول الثاني : أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن يذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد : 
أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه ، كان هذا إخبارا عن الغيب فيكون معجزا . 
وثانيها : أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولا ثم سمعه منهم ، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولا . 
وثالثها : أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولا ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي عليه الصلاة والسلام منهم يكون الجواب حاضرا ، فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضرا ، وأما السفه في أصل اللغة  فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى : ( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء    ) [البقرة : 13] وبالجملة فإن من لا يميز بين ما له وعليه ، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره ، يوصف بالخفة والسفه ، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا فإذا كان العادل عن الرأي الواضح في أمر دنياه يعد سفيها ، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه فهذا اللفظ يمكن حمله على اليهود  ، وعلى المشركين وعلى المنافقين ، وعلى جملتهم ، ولقد ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين : 
فأولها : قال  ابن عباس   ومجاهد    : هم اليهود  ، وذلك لأنهم كانوا يأنسون بموافقة الرسول لهم في القبلة ، كانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية ، فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتموا وقالوا : قد عاد إلى طريقة آبائه ، واشتاق إلى دينهم ، ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة ، فقالوا : ما حكى الله عنهم في هذه الآية . 
ثانيها : قال  ابن عباس   والبراء بن عازب  والحسن  والأصم  ، إنهم مشركو العرب ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى بيت المقدس  حين كان بمكة   ، والمشركون كانوا يتأذون منه بسبب ذلك فلما جاء إلى المدينة  وتحول إلى الكعبة  قالوا : أبى إلا الرجوع إلى موافقتنا ، ولو ثبت عليه لكان أولى به . 
وثالثها : أنهم المنافقون وهو قول السدي  ، وهؤلاء إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض   [ ص: 84 ] الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها ، فكان هذا التحويل مجرد العبث والعمل بالرأي والشهوة ، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين لأن هذا الاسم مختص بهم ، قال الله تعالى : ( ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون    ) [البقرة : 13] . 
ورابعها : أنه يدخل فيه الكل لأن لفظ السفهاء لفظ عموم دخل فيه الألف واللام ، وقد بينا صلاحيته لكل الكفار بحسب الدليل العقلي والنص أيضا يدل عليه وهو قوله : ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه    ) [البقرة : 130] فوجب أن يتناول الكل . قال القاضي : المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة وإذا كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيدا قلنا : هذا القدر لا ينافي العموم ولا يقتضي تخصيصه بل الأقرب أن يكون الكل قد قال ذلك لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن فإذا وجدوا مجالا لم يتركوا مقالا البتة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					