المسألة الخامسة ؛ قال الجبائي : : لأنه ليس بذي أبعاض ، ولا بذي أجزاء ، ولأنه منفرد بالقدم ، ولأنه منفرد بالإلهية ، ولأنه منفرد بصفات ذاته ، نحو كونه عالما بنفسه ، وقادرا بنفسه ، يوصف الله تعالى بأنه واحد من وجوه أربعة وأبو هاشم يقتصر على ثلاثة أوجه : فجعل تفرده بالقدم وبصفات الذات وجها واحدا ، قال القاضي : وفي هذه الآية المراد تفرده بالإلهية فقط ؛ لأنه أضاف التوحيد إلى ذلك ، ولذلك عقبه بقوله ( لا إله إلا هو ) .
وقال أصحابنا : إنه سبحانه وتعالى واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له ، وواحد في أفعاله لا شريك له ، أما أنه واحد في ذاته فلأن تلك الذات المخصوصة التي هي المشار إليها بقولنا : هو الحق سبحانه وتعالى إما أن تكون حاصلة في شخص آخر سواه ، أو لا تكون ، فإن كان الأول كان امتياز ذاته المعينة عن المعنى الآخر لا بد وأن يكون بقيد زائد ، فيكون هو في نفسه مركبا بما به الاشتراك وما به الامتياز ، فيكون ممكنا معلولا مفتقرا وذلك محال ، وإن لم يكن فقد ثبت أنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له ، وأما أنه واحد في صفاته فلأن موصوفيته سبحانه بصفات متميزة عن موصوفية غيره بصفات من وجوه :
أحدها : أن كل ما عداه فان ؛ لأن حصول صفاته له لا تكون من نفسه ، بل من غيره ، وهو سبحانه يستحق حصول صفاته لنفسه لا لغيره .
وثانيها : أن صفات غيره مختصة بزمان دون زمان ؛ لأنها حادثة ، وصفات الحق ليست كذلك .
وثالثها : أن صفات الحق غير متناهية بحسب المتعلقات ، فإن علمه متعلق بجميع المعلومات وقدرته متعلقة بجميع المقدورات ، بل له في كل واحد من المعلومات الغير المتناهية معلومات غير متناهية ؛ لأنه يعلم في ذلك الجوهر الفرد أنه كيف كان ، ويكون حاله بحسب كل واحد من الأحياز المتناهية ، وبحسب كل واحد من الصفات المتناهية ، فهو سبحانه واحد في صفاته من هذه الجهة .
ورابعها : أنه سبحانه ليست موصوفية ذاته بتلك الصفات بمعنى كونها حالة في ذاته وكون ذاته محلا لها ، ولا أيضا بحسب كون ذاته مستكملة بها ؛ لأنا بينا أن الذات كالمبدأ لتلك الصفات ، فلو كانت الذات مستكملة بالصفات لكان المبدأ ناقصا لذاته مستكملا بالممكن لذاته ، وهو محال ، بل ذاته مستكملة لذاته ، ومن لوازم ذلك الاستكمال الذاتي تحقق صفات الكمال معه ، إلا أن التقسيم يعود في نفس الاستكمال فينتهي إلى حيث تقصر العبارة عن الوفاء به .
[ ص: 157 ] خامسها : أنه لا خبر عند العقول من كنه صفاته ، كما لا خبر عندها من كنه ذاته ؛ وذلك لأنا لا نعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي لأجله ظهر الإحكام والإتقان في عالم المخلوقات ، فالمعلوم من علمه أنه أمر ما ، لا ندري أنه ما هو ، ولكن نعلم منه أنه يلزمه هذا الأثر المحسوس ، وكذا القول في كونه قادرا وحيا ، فسبحان من ردع بنور عزته أنوار العقول والأفهام ، وأما إنه سبحانه وتعالى واحد في أفعاله فالأمر ظاهر ؛ لأن الموجود إما واجب وإما ممكن ، فالواجب هو هو ، والممكن ما عداه ، وكل ما كان ممكنا فإنه يجوز أن لا يوجد ما لم يتصل بالواجب ، ولا يختلف هذا الحكم باختلاف أقسام الممكنات ، سواء كان ملكا أو ملكا أو كان فعلا للعباد ، أو كان غير ذلك ، فثبت أن كل ما عداه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته واستيلائه ، وعند هذا تدرك شمة من روائح أسرار قضائه وقدره ، ويلوح لك شيء من حقائق قوله : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [القمر : 49] وتعرف أن الموجود ليس البتة إلا ما هو هو ، وما هو له ، وإذا وقعت سفينة الفكرة في هذه اللجة ، فلو سارت إلى الأبد لم تقف ؛ لأن السير إنما يكون من شيء إلى شيء ، فالشيء الأول متروك ، والشيء الثاني مطلوب ، وهما متغايران ، فأنت بعد خارج عن عالم الفردانية والوحدانية ، فأما إذا وصلت إلى برزخ عالم الحدوث والقدم ، فهناك تنقطع الحركات ، وتضمحل العلامات والأمارات ، ولم يبق في العقول والألباب إلا مجرد أنه هو ، فيا هو ويا من لا هو إلا هو أحسن إلى عبدك الضعيف ؛ فإن عبدك بفنائك ومسكينك ببابك .