الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : إن قيل : ما معنى إضافته بقوله : ( وإلهكم ) وهل تصح هذه الإضافة في كل الخلق أو لا تصح إلا في المكلف ؟ قلنا : لما كان الإله هو يستحق أن يكون معبودا والذي يليق به أن يكون معبودا بهذا الوصف ، إنما يتحقق بالنسبة إلى من يتصور منه عبادة الله تعالى ، فإن هذه الإضافة صحيحة بالنسبة إلى كل المكلفين ، وإلى جميع من تصح صيرورته مكلفا تقديرا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : قوله : ( وإلهكم ) يدل على أن معنى الإله ما يصح أن تدخله الإضافة ، فلو كان معنى الإله القادر لصار المعنى وقادركم قادر واحد ، ومعلوم أنه ركيك فدل على أن الإله هو المعبود .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثامنة : قوله : ( وإلهكم إله واحد ) معناه أنه واحد في الإلهية ؛ لأن ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها ، فهو بمنزلة وصف الرجل بأنه سيد واحد ، وبأنه عالم واحد ، ولما قال : ( وإلهكم إله واحد ) أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : هب أن إلهنا واحد ، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا ، فلا جرم أزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق ، فقال : ( لا إله إلا هو ) ؛ وذلك لأن قولنا : لا رجل ، يقتضي نفي هذه الماهية ، ومتى انتفت هذه الماهية انتفى جميع أفرادها ؛ إذ لو حصل فرد من أفراد تلك الماهية فمتى حصل ذلك الفرد ، فقد حصلت الماهية ، وذلك يناقض ما دل اللفظ عليه من انتفاء الماهية ، فثبت أن قولنا : لا رجل يقتضي النفي العام الشامل ، فإذا قيل بعد : إلا زيدا ، أفاد التوحيد التام المحقق ، وفي هذه الكلمة أبحاث :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن جماعة من النحويين قالوا : الكلام فيه حذف وإضمار ، والتقدير : لا إله لنا ، أو لا إله في الوجود إلا الله ، واعلم أن هذا الكلام غير مطابق للتوحيد الحق ؛ وذلك لأنك لو قلت : التقدير أنه لا إله لنا إلا الله ، لكان هذا توحيدا لإلهنا لا توحيدا للإله المطلق ، فحينئذ لا يبقى بين قوله : ( وإلهكم إله واحد ) وبين قوله : ( لا إله إلا هو ) فرق ، فيكون ذلك تكرارا محضا ، وأنه غير جائز ، وأما لو قلنا : التقدير لا إله في الوجود ، فذلك الإشكال زائل ، إلا أنه يعود الإشكال من وجه آخر ؛ وذلك [ ص: 158 ] لأنك إذا قلت : لا إله في الوجود لا إله إلا هو ؛ كان هذا نفيا لوجود الإله الثاني ، أما لو لم يضمر هذا الإضمار كان قولك : لا إله إلا الله نفيا لماهية الإله الثاني ، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره ، والإعراض عن هذا الإضمار أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : نفي الماهية كيف يعقل ؟ فإنك إذا قلت : السواد ليس بسواد ، كان ذلك حكما بأن السواد ليس بسواد ، وهو غير معقول ، أما إذا قلت : السواد ليس بموجود ، فهذا معقول منتظم مستقيم ، قلنا : بنفي الماهية أمر لا بد منه ، فإنك إذا قلت : السواد ليس بموجود ، فقد نفيت الوجود ، والوجود من حيث هو وجود ماهية ، فإذا نفيته فقد نفيت هذه الماهية المسماة بالوجود ، فإذا عقل نفي هذه الماهية من حيث هي هي ، فلم لا يعقل نفي تلك الماهية أيضا ، فإذا عقل ذلك صح إجراء قولنا : لا إله إلا الله على ظاهره ، من غير حاجة إلى الإضمار ، فإن قلت : إنا إذا قلنا : السواد ليس بموجود ، فما نفيت الماهية وما نفيت الوجود ، ولكن نفيت موصوفية الماهية بالوجود ، قلت : فموصوفية الماهية بالوجود ، هل هي أمر منفصل عن الماهية وعن الوجود أم لا ؟ فإن كانت منفصلة عنهما كان نفيها نفيا لتلك الماهية ، فالماهية من حيث هي هي أمكن نفيها ، وحينئذ يعود التقريب المذكور ، وإن لم تكن تلك الموصوفية أمرا منفصلا عنها استحال توجيه النفي إليها إلا بتوجيه النفي إما إلى الماهية وإما إلى الوجود ، وحينئذ يعود التقريب المذكور ، فثبت أن قولنا : لا إله إلا هو حق وصدق من غير حاجة إلى الإضمار البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : فيما يتعلق بهذه الكلمة : أن تصور النفي متأخر عن تصور الإثبات ، فإنك ما لم تتصور الوجود أولا ، استحال أن تتصور العدم ، فأنت لا تتصور من العدم إلا ارتفاع الوجود ، فتصور الوجود غني عن تصور العدم ، وتصور العدم مسبوق بتصور الوجود ، فإن كان الأمر كذلك فما السبب في قلب هذه القضية في هذه الكلمة حتى قدمنا النفي وأخرنا الإثبات .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن الأمر في العقل على ما ذكرت ، إلا أن تقديم النفي على الإثبات كان لغرض إثبات التوحيد ونفي الشركاء والأنداد .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : في كلمة ( هو ) ، اعلم أن المباحث اللفظية المتعلقة بهو قد تقدمت في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، أما الأسرار المعنوية فنقول : اعلم أن الألفاظ على نوعين : مظهرة ومضمرة ؛ أما المظهرة فهي الألفاظ الدالة على الماهيات المخصوصة من حيث هي هي ، كالسواد ، والبياض ، والحجر ، والإنسان ، وأما المضمرات فهي الألفاظ الدالة على شيء ما هو كالمتكلم ، والمخاطب ، والغائب ، من غير دلالة على ماهية ذلك المعين ، وهي ثلاثة : أنا ، وأنت ، وهو ، وأعرفها أنا ، ثم أنت ، ثم هو ، والدليل على صحة هذا الترتيب أن تصوري لنفسي من حيث أني أنا مما لا يتطرق إليه الاشتباه ، فإنه من المستحيل أن أصير مشتبها بغيري ، أو يشتبه بي غيري ، بخلاف أنت ، فإنك قد تشتبه بغيرك ، وغيرك يشتبه بك في عقلي وظني ، وأيضا فأنت أعرف من هو ، فالحاصل أن أشد المضمرات عرفانا ( أنا ) وأشدها بعدا عن العرفان ( هو ) ، وأما ( أنت ) فكالمتوسط بينهما ، والتأمل التام يكشف عن صدق هذه القضية ، ومما يدل على أن أعرف الضمائر قولا قولي : ( أنا ) أن المتكلم حصل له عند الانفراد لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث من غير فصل ؛ لأن الفصل إنما يحتاج إليه عند الخوف من الالتباس ، وههنا لا يمكن الالتباس ، فلا حاجة إلى الفصل ، وأما عند التثنية والجمع فاللفظ [ ص: 159 ] واحد ، أما في المتصل فكقولك : شربنا ، وأما المنفصل فقولك : نحن ، وإنما كان كذلك للأمن من اللبس ، وأما المخاطب فإنه فصل بين لفظ مؤنثه ومذكره ، ويثنى ويجمع ؛ لأنه قد يكون بحضرة المتكلم مؤنث ومذكر وهو مقبل عليهما ، فيخاطب أحدهما فلا يعرف حتى يبينه بعلامة ، وتثنية المخاطب وجمعه إنما حسن لهذه العلة ، وأما أن الحاضر أعرف من الغائب فهذا أمر كالضروري .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : ظهر أن عرفان كل شيء بذاته أتم من عرفانه بغيره ، سواء كان حاضرا أو غائبا ؛ فالعرفان التام بالله ليس إلا لله ؛ لأنه هو الذي يقول لنفسه : ( أنا ) ، ولفظ ( أنا ) أعرف الأقسام الثلاثة ، فلما لم يكن لأحد أن يسير إلى تلك الحقيقة بالضمير الذي هو أعرف الضمائر وهو قول ( أنا ) إلا له سبحانه ، علمنا أن العرفان التام به سبحانه وتعالى ليس إلا له .

                                                                                                                                                                                                                                            بقي أن هناك قوما يجوزون الاتحاد : الأرواح البشرية إذا استنارت بأنوار معرفة تلك الحقيقة اتحد العاقل بالمعقول ، وعند الاتحاد يصح لذلك العارف أن يقول : أنا الله ، إلا أن القول بالاتحاد غير معقول ؛ لأن حال الاتحاد إن فنيا أو أحدهما ، فذاك ليس باتحاد ، وإن بقيا فهما اثنان لا واحد ، ولما انسد هذا الطريق الذي هو أكمل الطرق في الإشارة بقي الطريقان الآخران ، وهو ( أنت ) و ( هو ) ، أما ( أنت ) فهو للحاضرين في مقامات المكاشفات والمشاهدات لمن فني عن جميع الحظوظ البشرية على ما أخبر الله تعالى عن يونس عليه السلام أنه بعد أن فني عن ظلمات عالم الحدوث وعن آثار الحدوث وصل إلى مقام الشهود فقال : ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت ) [الأنبياء : 87] وهذا ينبهك على أنه لا سبيل إلى الوصول إلى مقام المشاهدة والمخاطبة إلا بالغيبة عن كل ما سواه ، وقال محمد صلى الله عليه وسلم : لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك وأما ( هو ) فللغائبين ، ثم ههنا بحث وهو : أن ( هو ) في حقه أشرف الأسماء ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الاسم إما كلي أو جزئي ، وأعني بكلي أن يكون مفهومه بحيث لا يمنع تصوره من وقوع الشركة ، وأعني بالجزئي أن يكون نفس تصوره مانعا من الشركة ، وهو اللفظ الدال عليه من حيث إنه ذلك المعين ، فإن كان الأول فالمشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه ؛ لأنه لما كان المفهوم من ذلك الاسم أمرا لا يمنع الشركة ، وذاته المعينة سبحانه وتعالى مانعة من الشركة وجب القطع بأن المشار إليه بذلك الاسم ليس هو الحق سبحانه ، فإذن جميع الأسماء المشتقة : كالرحمن ، والرحيم ، والحكيم ، والعليم ، والقادر ، لا يتناول ذاته المخصوصة ، ولا يدل عليها بوجه البتة ، وإن كان الثاني فهو المسمى باسم العلم ، والعلم قائم مقام الإشارة ، فلا فرق بين قولك : يا زيد وبين قولك : يا أنت ويا هو . وإذا كان العلم قائما مقام الإشارة فالعلم فرع واسم الإشارة أصل ، والأصل أشرف من الفرع ، فقولنا : يا أنت ، يا هو أشرف من سائر الأسماء بالكلية ، إلا أن الفرق أن ( أنت ) لفظ يتناول الحاضر و ( هو ) يتناول الغائب ، وفيه سر آخر وهو أن ( هو ) إنما يصح التعبير عنه إذا حصل في العقل صورة ذلك الشيء ، وقولك : ( هو ) يتناول تلك الصورة وهي حاضرة ، فقد عاد القول إلى أن ( هو ) أيضا لا يتناول إلا الحاضر .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنا قد دللنا على أن حقيقة الحق منزهة عن جميع أنحاء التراكيب ، والفرد المطلق لا يمكن نعته ؛ لأن النعت يقتضي المغايرة بين الموصوف والصفة ، وعند حصول الغيرية لا تبقى الفردانية ، وأيضا لا يمكن الإخبار عنه ؛ لأن الإخبار يقتضي مخبرا عنه ومخبرا به ، وذلك ينافي الفردانية ، فثبت أن جميع الأسماء المشتقة قاصرة عن الوصول إلى كنه حقيقة الحق ، وأما لفظ ( هو ) فإنه يصل إلى كنه تلك الحقيقة المفردة المبرأة عن جميع جهات الكثرة ، فهذه اللفظة لوصولها إلى كنه الحقيقة وجب أن تكون أشرف من سائر الألفاظ [ ص: 160 ] التي يمتنع وصولها إلى كنه تلك الحقيقة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الألفاظ المشتقة دالة على حصول صفة للذات ، ثم ماهيات صفة الحق أيضا غير معلومة إلا بآثارها الظاهرة في عالم الحدوث ، فلا يعرف من علمه إلا أنه الأمر الذي باعتباره صح منه الإحكام والإتقان ، ومن قدرته إلا أنها الأمر الذي باعتباره صح منه صدور الفعل والترك ، فإذن هذه الصفات لا يمكننا تعقلها إلا عند الالتفات إلى الأحوال المختلفة في عالم الحدوث ، فالألفاظ المشتقة لا تشير إلى الحق سبحانه وحده ، بل تشير إليه وإلى عالم الحدوث معا ، والناظر إلى شيئين لا يكون مستكملا في كل واحد منهما ، بل يكون ناقصا قاصرا ، فإذن جميع الأسماء المشتقة لا تفيد الاستغراق في مقام معرفة الحق ، بل كأنها تصير حجابا بين العبد وبين الاستغراق في معرفة الرب ، وأما ( هو ) فإنه لفظ يدل عليه من حيث هو هو ، لا من حيث عرضت له إضافة أو نسبة بالقياس إلى عالم الحدوث ، فكان لفظ ( هو ) يوصلك إلى الحق ويقطعك عما سواه ، وما عداه من الأسماء فإنه لا يقطعك عما سواه ، فكان بلفظ ( هو ) أشرف .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن البراهين السالفة قد دلت على أن منبع الجلال والعزة هو الذات ، وأن ذاته ما كملت بالصفات ، بل ذاته لكمالها استلزمت صفات الكمال ، ولفظ ( هو ) يوصلك إلى ينبوع الرحمة والعزة والعلو ، وهو الذات ، وسائر الألفاظ لا توقفك إلا في مقامات النعوت والصفات ، فكان لفظ ( هو ) أشرف ، فهذا ما خطر بالبال في الكشف عن أسرار لفظ ( هو ) ، وإليه الرغبة سبحانه في أن ينور بدرة من لمعات أنوارها صدورنا وأسرارنا ، ويروح بها عقولنا وأرواحنا حتى نتخلص من ضيق عالم الحدوث إلى فسحة معارج القدم ، ونرقى من حضيض ظلمة البشرية إلى سماوات الأنوار وما ذلك عليه بعزيز .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة التاسعة : قال النحويون في قوله تعالى : ( لا إله إلا هو ) ارتفع ( هو ) ؛ لأنه بدل من موضع ( لا ) مع الاسم ، ولنتكلم في قوله : ما جاءني رجل إلا زيد ، فقوله : إلا زيد مرفوع على البدلية ؛ لأن البدلية هي الإعراض عن الأول والأخذ بالثاني ، فكأنك قلت : ما جاءني إلا زيد ، وهذا معقول ؛ لأنه يفيد نفي المجيء عن الكل إلا عن زيد ، أما قوله : جاءني إلا زيدا فههنا البدلية غير ممكنة ؛ لأنه يصير في التقدير : جاءني خلق إلا زيدا ، وذلك يقتضي أنه جاء كل أحد إلا زيدا وذلك محال ، فظهر الفرق ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما ( الرحمن الرحيم ) فقد تقدم القول في تفسيرهما وبينا أن الرحمة في حقه سبحانه هي النعمة وفاعلها هو الراحم ، فإذا أردنا إفادة الكثرة قلنا : ( رحيم ) ، وإذا أردنا المبالغة التامة التي ليست إلا له سبحانه قلنا : ( الرحمن ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه سبحانه إنما خص هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين ؛ لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر والعلو ، فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحا للقلوب عن هيبة الإلهية ، وعزة الفردانية ، وإشعارا بأن رحمته سبقت غضبه ، وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية