النوع الثالث من الدلائل : اختلاف الليل والنهار ، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا للاختلاف تفسيرين :
أحدهما : أنه افتعال من قولهم : خلفه يخلفه إذا ذهب الأول وجاء الثاني ، فاختلاف الليل والنهار تعاقبهما في الذهاب والمجيء ، ومنه يقال : فلان يختلف إلى فلان إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده ، فذهابه يخلف مجيئه ، ومجيئه يخلف ذهابه ، وكل شيء يجيء بعد شيء آخر فهو خلفه ، وبهذا فسر قوله تعالى : ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ) [ الفرقان : 62 ] .
والثاني : أراد ، قال اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر والنور والظلمة والزيادة والنقصان الكسائي : يقال لكل شيئين اختلفا : هما خلفان .
وعندي فيه وجه ثالث ، وهو أن الليل والنهار كما يختلفان بالطول والقصر في الأزمنة ، فهما يختلفان بالأمكنة ، فإن عند من يقول : الأرض كرة فكل ساعة عينتها فتلك الساعة في موضع من الأرض صبح ، وفي موضع آخر ظهر ، وفي موضع ثالث عصر ، وفي رابع مغرب ، وفي خامس عشاء ، وهلم جرا ، هذا إذا اعتبرنا البلاد المخالفة في الأطوال ، أما البلاد المختلفة بالعرض ، فكل بلد يكون عرضه الشمالي أكثر كانت أيامه الصيفية أطول ، ولياليه الصيفية أقصر ، وأيامه الشتوية بالضد من ذلك ، فهذه الأحوال المختلفة في الأيام والليالي بحسب اختلاف أطوال البلدان وعرضها أمر مختلف عجيب ، ولقد ذكر الله تعالى أمر الليل والنهار في كتابه في عدة مواضع فقال في بيان كونه مالك الملك : ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ) [ فاطر : 13 ] وقال في القصص : ( قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) [ القصص : 71 ] وفي الروم : ( ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) [ الروم : 28 ] وفي لقمان : ( ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى ) [ لقمان : 29 ] وفي الملائكة : ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم ) [ فاطر : 13 ] وفي يس : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون ) [ يس : 37 ] وفي الزمر : ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ) [ الزمر : 5 ] وفي حم غافر : ( الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا ) [ غافر : 61 ] وفي عم : ( وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ) [ النبأ : 10 ] والآيات من هذا الجنس كثيرة ، وتحقيق الكلام أن يقال : إن اختلاف أحوال الليل والنهار يدل على الصانع من وجوه :
الأول : أن اختلاف أحوال الليل والنهار مرتبط بحركات الشمس ، وهي من الآيات العظام .
الثاني : ما يحصل بسبب طول الأيام تارة ، وطول الليالي أخرى من اختلاف الفصول ، وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء ، وهو من الآيات العظام .
الثالث : أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة في الأيام وطلب النوم والراحة في الليالي من الآيات العظام .
الرابع : أن كون الليل والنهار متعاونين على تحصيل [ ص: 176 ] مصالح الخلق مع ما بينهما من التضاد والتنافي من الآيات العظام ، فإن مقتضى التضاد بين الشيئين أن يتفاسدا لا أن يتعاونا على تحصيل المصالح .
الخامس : أن ، ويقظتهم عند طلوع الشمس شبيهة بعود الحياة إليهم عند النفخة الثانية ، وهذا أيضا من الآيات العظام المنبهة على الآيات العظام . إقبال الخلق في أول الليل على النوم يشبه موت الخلائق أولا عند النفخة الأولى في الصور
السادس : أن انشقاق ظلمة الليل بظهور الصبح المستطيل فيه من الآيات العظام كأنه جدول ماء صاف يسيل في بحر كدر بحيث لا يتكدر الصافي بالكدر ولا الكدر بالصافي ، وهو المراد بقوله تعالى : ( فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ) [ الأنعام : 96 ] .
السابع : أن ، كما بينا أن في الموضع الذي يكون القطب على سمت الرأس تكون السنة ستة أشهر فيها نهارا وستة أشهر ليلا ، وهناك لا يتم النضج ولا يصلح المسكن لحيوان ولا يتهيأ فيه شيء من أسباب المعيشة . تقدير الليل والنهار بالمقدار المعتدل الموافق للمصالح من الآيات العظام
الثامن : أن ظهور الضوء في الهواء لو قلنا : إنه حصل بقدرة الله تعالى ابتداء عند طلوع الشمس ، من حيث إنه تعالى أجرى عادته بخلق ضوء في الهواء عند طلوع الشمس فلا كلام ، وإن قلنا : الشمس توجب حصول الضوء في الجرم المقابل له كان اختصاص الشمس بهذه الخاصية دون سائر الأجسام مع كون الأجسام بأسرها متماثلة ، يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المحرك لأجرام السماوات ملك عظيم الجثة والقوة ، وحينئذ لا يكون اختلاف الليل والنهار دليلا على أنه الصانع ؟ قلنا : أما على قولنا فلما دل الدليل على أن ، فقد زال السؤال ، وأما على قول المعتزلة فقد نفى قدرة العبد غير صالحة للإيجاد أبو هاشم هذا الاحتمال بالسمع .