الهجوم على العربية استهدف به الدين
والعربية: اللسان، والدعوة إليها من أمر العقيدة، يستوي فيه موقع المسلم العربي والمسلم غير العربي، على الرغم من ردود الفعل والإساءات التي حملها دعاة النزعات الإقليمية والعرقية، والقوميات، وأرادوا حبس لغة العلم والحضارة والعقيدة ضمن أسوار النزعات الإقليمية، وكان بعضهم من البساطة لدرجة ظن معها أنه يحسن بذلك صنعا، ولم يدر أنه يمثل مطية لمرحلة كان لا بد منها، هـي: مرحلة العبور من الإسلام إلى اللادينية التي تحارب الإسلام، وتحارب العرب مادة الإسلام، وتحارب لسان العربية الإسلام.. ومع الأسف فإن البسطاء من المسلمين غير العرب وصل عندهم رد الفعل إلى المدى الذي رسم لهم ابتداء، فأصبحوا ينظرون بارتياب إلى كل دعوة تعريب اللسان، وما دروا أنهم بذلك أساءوا لأنفسهم، ووقفوا عن غير قصد منهم في صف أعداء الإسلام، فأصبحوا يعتبرون أن كل دعوة للعربية هـي دعوة للإقليمية، وفاتهم أن موقعهم من لغة العقيدة لا يختلف عن موقع العرب منها أو موقعها منهم، وأن دعاة الإقليمية من العرب كانوا تاريخيا أعجز الناس عن تقديم أية خدمة للعربية، بل معظمهم لا يحسن النطق بها، ولا يقيم لسانه بالقليل منها..
ولقد كنا نتوهم أن الهجوم على العربية بأشكاله المتعددة، ووسائله المختلفة، الذي تولى كبره، كمال أتاتورك على المستوى السياسي، أصبح تاريخا بعد أن سقطت الأقنعة عن الوجوه، وارتدت الأسلحة إلى نحور أصحابها، لكن الحقيقة أن أعداء الإسلام الذين يقول الله عنهم:
( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) (البقرة: 217) لم يكلوا ولم يملوا، وكلما سقطت راية رفعوا غيرها، وكلما انكشفت وسيلة استبدلوها بسواها، وكلما خسروا معركة تحرفوا لموقع آخر يقاتلون فيه، ويمكن أن يكون خرق اللغة، بالنسبة إليهم، هـو من أعظم الخروق التي ينفذون منها دون ضجيج وبشكل هـادئ.
لقد أدركوا أن الهجوم المباشر على العربية، والدعوة المباشرة إلى استبدال [ ص: 106 ] العامية بها، ترك ردود فعل قوية على مختلف المستويات، فكان لا بد من تغيير الوسيلة والتسلل لتحقيق أهدافهم بهدوء وصمت.. فمن دعوى إلى تطوير الحرف العربي والخط العربي، وتقديم المسوغات التكنولوجية لذلك - وصناعة التكنولوجيا بأيديهم كما هـو معلوم - إلى الدعوى التي تقول بضرورة التفريق بين لغة العلم ولغة الدين، وأن العربية لا تصلح كلغة علمية، لأنها لغة دينية مكانها المعابد والمساجد والكتب المقدسة، كالسريانية واللاتينية والهيروغليفية وبعض اللغات الميتة التي تقتصر معرفتها على بعض رجال الدين بعيدا عن واقع الحياة، ولعل القضية هـذه هـي مظهر واضح من القضية الأساسية، فصل الحياة عن الدين.