استحضار البعد الإيماني الغيبي
ونريد هـنا أن ننبه إلى أمر، نعتبر الانتباه إليه على غاية من الأهمية، ذلك أننا لا نعني بقولنا: إن مشكلة المسلمين اليوم هـي مشكلة ثقافية، وما نعاني منه لا يخرج عن كونه مظهرا لها، أن مشكلة المسلمين مفتقرة إلى وجود فلسفة، أو الحصول على معرفة بقراءة كتاب معين، أو الاطلاع على كتاب في الأحكام الفقهية، أو حفظ بعض المصطلحات والقدرة على استعمالها بعيدا عن التربية الميدانية والتدريب على المعاني الإسلامية والمجاهدة والجهاد، وإنما الذي نعني بالقضية الثقافية التي تشكل بمجموعها مشكلة المسلمين: استقامة النظرة، وانضباط المنهج، وسلامة الممارسة، وحسن الفقه والدراية لواقع المجتمع، والمساهمة بصياغته صياغة إسلامية، وتقويم الأفكار المعوجة وتحصيل الإرادة العامة، واستعادة الفاعلية التي ولدها الإيمان وسددتها التقوى ليصبح ذلك روح الأمة وضميرها، وهاجسها الدائم، وقوتها اليومي، وعدم اقتصار ذلك على فرد أو أفراد أو جماعة في عالم المسلمين..
المقصود بالثقافة هـنا: الممارسة الإسلامية واستحضار البعد الإيماني الغيبي في العقيدة والحركة، والضابط الأخلاقي الموجه الصحيح لسلوك الإنسان في الممارسات، وليس العلم بالشيء فقط والقعود عن السلوك والممارسة، ذلك أن العلم على أهميته وضرورته عن أن يكون بعض جوانب القضية..
إن مشكلة الثقافة لا تضم في مفهومها قضية الأفكار فحسب، وبذلك ينقلب العمل للإسلام إلى ناد فكري أو تجمع سياسي (أيديلوجي) أو قطاع فلسفي، وإنما هـي تشمل قضايا أعم من ذلك بكثير، إنها تعني فيما تعني: أسلوب الحياة في مجتمع معين، والسلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الأفراد في ذلك المجتمع، والتدريب العملي اليومي على ذلك، وتوازن الأبعاد في الإنسان المسلم وتوازي الخطوط للشخصية الإسلامية وعدم تقاطعها، إنها مجموعة العناصر الجوهرية في بناء الفرد والمجتمع..
الثقافة هـي الجو والمناخ الذي يمتص فيه الفرد تلقائيا عناصر معينة فينطبع بها سلوكه وتوجهه الفكري، فيندفع إلى إتقان العمل وحسن الأداء، وديمومة [ ص: 122 ] البحث والتعرف على سنن الله في الآفاق لتسخيرها وحسن التعامل معها، وسننه في الأنفس لتربيتها وتوجيهها وتغييرها صوب الهدف الإسلامي الواحد، وقد يخطر ببال بعضهم أننا بذلك نريد مزيدا من الكتب نضيفها إلى المكتبة الإسلامية المترعة بالمفيد وغير المفيد، أو مزيدا من القراءة والمدارسة النظرية فقط بعيدا عن الممارسة والتربية الميدانية، أو يشتم من وراء الكلام توجها تربويا أو خطا تربويا مقابلا لغيره، يأتي كرد فعل لواقع معين، أو نريد للعمل الإسلامي أن ينقلب إلى مدرسة فكرية، والذي يدفع إلى هـذا التصور هـو عدم القدرة على الرؤية الكلية والعيش على صورة جزئية يعتبرها البداية والنهاية، ويعجز عن إدراك ما سواها مما قد يكون من مكملاتها.
والذي نريد أن يكون واضحا ابتداء: أننا نحاول أن نتلمس الطريق من خلال الحقائق الإسلامية والتربية الإسلامية والرؤية الإسلامية الشاملة والتربية العملية في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة.. إلى جانب استحضار العبرة من التجارب الإسلامية الكثيرة.
إن هـذا التمزيق وهذا التجزىء والتقطيع في الرؤية الإسلامية مرفوض، وهو الذي يقبع وراء الكثير من معاناتنا، إننا لا نريد أن ينقلب العمل الإسلامي إلى مجموعة سواعد فقط يمكن أن تستخدم كوقود في معارك لا يكون للإسلام فيها نصيب، ويسهل خداعها بالبرق الخلبي أو بالفجر الكاذب، ووضعها في موقف حرج يسهل توظيفها واحتواءها، ولا نريد أن ينقلب العمل الإسلامي إلى ساحة استرخاء فلسفي، واجترار نظري، ومعارف باردة، وفقه أوراق، وإيثار للراحة.