العلوم والتقدم العلمي
تعرف العلوم بأنها مجموع ما وصل إلى إدراك الإنسان من معارف في مختلف الأماكن والعصور، مرتبة حسب ما تتعلق به من أمور، سواء كان ذلك عن طريق الفكر الإنساني وإبداعه، أو عن طريق ميراثه من هـذا الفكر والإبداع، [ ص: 38 ] أو عن طريق الوحي السماوي الذي نزل على رسل الله (عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم) ، ولكن الاتجاه السائد بين الناس يقصر لفظة العلم على دراسة كل ما هـو مدرك أو محسوس في هـذا الكون: الأحياء على تعدد أنواعها، والمادة على تنوع أشكالها، والطاقة على اختلاف صورها، والظواهر والسنن الكونية التي تحكم ذلك كله، بالمشاهدة والاستنتاج، أو بالتجربة والملاحظة، والاستنتاج في محاولة لمعرفة خصائص المادة والطاقة وصفات الأحياء، وتصنيف ذلك وتبويبه، ووضع الفروض والنظريات اللازمة لتفسير كل هـذه العلاقات والسنن، واستنتاج القوانين للمطرد منها.
وبهذا التحديد تنقسم المعارف الإنسانية عامة إلى دراسات العلوم (البحتة والتطبيقية) ودراسات الآداب والفنون، ودراسات العقائد، وإن اختلف الكتاب في تبويبها وتصنيفها، ويبقى تحديد دراسات العلوم بقصرها على المعارف بأشياء وحقائق الكون وقوانينه ومظاهره التي اكتسبها الإنسان – ولا يزال – على مدى مسيرة البشرية، في عملية تراكمية لها قدرة ذاتية على التصحيح، مما يؤدي إلى تطورها المستمر، وازدياد قربها من الحقيقة يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل، ما لم تتعرض هـذه العملية للانتكاس أو الانهيار.
والعلم بهذا التحديد هـو محاولة بشرية لفهم الكون ورصد حقائقه ومحاولة استيعابها عن طريق مختلف القدرات الذهنية والحسية، والاستقراء للسنن الكونية الثابتة وللظواهر المتكررة، وهو بذلك عملية متنامية في محاولة الوصول إلى الحقيقة المطلقة ومنتهاها، قول الحق تبارك وتعالى: ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) [محمد:19]، ومدى ما يمكن أن يحفزه ذلك في المجتمعات الإنسانية من تقدم مادي، وانضباط سلوكي، والتزام أخلاقي، وفهم عميق لحقيقة رسالة الإنسان في هـذا الوجود.
وهنا تلتقي المعارف الإنسانية في هـيئة هـرمية قاعدتها العلوم البحتة والتطبيقية، ومختلف استخداماتها الصناعية والمهنية، مع فلسفة العلوم، وتلتقي الدراسات الإنسانية مع الفلسفة (بمدلولها الصحيح: حب الحكمة) ويلتقي [ ص: 39 ] كل ذلك بالعقيدة الصحيحة وهي عقيدة الإسلام، وقمة المعرفة الإنسانية.
وقد لا يتسع المقام هـنا للخوض في هـذه القضية بشيء من التفصيل، ولكن يكفي أن أشير على أن الدين لا بد وأن يكون صياغة ربانية خالصة، لا يداخله أدنى قدر من العمل البشري، وذلك لأن العقل والحس اللذين وكل إليهما استقراء حقائق الكون وتوظيف سنن الله الحاكمة له في عمارة الحياة على الأرض، عاجزان كل العجز عن تحديد العقيدة الصحيحة، والعبادة المقبولة، والأخلاق الفاضلة، وتفاصيل المعاملات العادلة، ومن هـنا كانت ضرورة الوحي السماوي ليظل الدين صياغة ربانية خالصة، ومن هـنا أيضا كان تكامل الرسالات السماوية كلها في رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،
وكان الوعد الإلهي بحفظها: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [الحجر:9]، بينما ضيعت كل الكتب السماوية السابقة أو حرفت وبدلت وغيرت، فأخرجت عن إطارها الرباني، ولم تعد صالحة لأن تكون أصلا للدين.
ومن هـنا أيضا كان القرار الإلهي يتنزل من فوق سبع سماوات ( إن الدين عند الله الإسلام ) [آل عمران:19]،
ويؤكد الحكم الإلهي الفاصل: ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) [آل عمران:85].
وليست المفارقة في قضية التقدم العلمي المعاصر في وجود هـذه الهوة السحيقة التي تفصل بين الدول المتقدمة والمتخلفة فحسب، ولا في انضواء الغالبية الساحقة من الدول الإسلامية في زمرة الدول المتخلفة على خطورة ما يمكن أن يسببه ذلك من صد عن الدين الصحيح، وتهديد لحملة آخر الرسالات السماوية وأكملها وأتمها، ومن ضياع للبشرية كلها، ولكن المفارقة تبلغ مداها في حقيقة مريرة مؤداها أن الدول المتقدمة علميا وتقنيا هـي في غالبيتها الساحقة دول كافرة بالله، منكرة لرسالاته، جاحدة للخلق، مستعلية على الحق، أغرتها قوتها المادية وتفوقها التقني على التجبر والاستعلاء في الأرض؛ لأن الإنسان الذي لا يعبد الله يعبد ذاته، وعابد ذاته مخلوق تقتله الأنانية ويفسده [ ص: 40 ] الغرور، ولا يمكن أن يكون لبنة صالحة في هـذه الحياة، ومن هـنا فهذه الدول المتقدمة علميا وتقنيا، أصبحت هـي التي تهدد مصير البشرية بالفناء والحضارة الإنسانية بالزوال، وأصبحت تتسبب في أغلب المشاكل التي يواجهها الإنسان اليوم، وتسير بالتقدم العلمي إلى طريق مسدود، لتنحرف به عن مساره الصحيح، فتظل الاستنتاجات العلمية – على روعتها – عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة المطلقة، وهي الإيمان بالله الواحد القهار، وعن الالتحام بالعقيدة الصحيحة، وهي عقيدة الإسلام.
ولو أن المنهج العلمي القائم على استقراء حقائق الكون له طبيعة تراكمية كما أن له قدرة ذاتية على تصحيح مساره، إلا أن ذلك يتم ببطء، قد يستوعب الجيل تلو الجيل حتى تتضح الرؤية ويتم التصحيح في عالم أصبحت فيه التخصصات - على قدر من الضيق والعمق - يفقد الإنسان في كثير من الأحيان القدرة على النظرة الشمولية الواسعة اللازمة لمثل هـذه الاستنتاجات الكلية.
مما سبق يتضح أن البحث العلمي هـو نشاط إنساني متواصل في محاولة لفهم الكون وما فيه من جمادات، وأحياء، وطاقات، وقوى، وما يحكم ذلك من ظواهر وسنن، وأن الهدف من ذلك النشاط هـو زيادة معرفة الإنسان بنفسه، وبما حواليه من أشياء هـذا الكون بطريقة مطردة تعينه على القيام بعمارة الأرض، والحفاظ على المعرفة ونقلها من جيل إلى جيل.
والبحث العلمي بهذا المفهوم غير مقيد بقيود اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين، وغير محجور على أمة من الأمم، ولا على إقليم من الأقاليم، بل هـو مجال مفتوح أمام الإنسانية جمعاء، يتنافس فيه المتنافسون، إلا أن متطلباته المادية في هـذه الأزمنة لم تعد بسيطة، ميسورة كما كانت في الماضي، بل أصبحت تنوء بها ميزانيات الدول النامية وأغلبها من الدول الفقيرة، خاصة إذا لم يكن هـناك مردود مادي مباشر لنتائجها عن طريق توظيف تلك النتائج في عمليات التنمية، وهو أمر لم تتقنه تلك المجتمعات الفقيرة بعد. [ ص: 41 ]
وبالمثل فإن المعارف العلمية – في غالبيتها – غير مقيدة بحدود جغرافية أو إقليمية ضيقة؛ لأنها تراث الإنسانية جمعاء، وحصيلة مسيرتها الطويلة، فما من أمة من الأمم، ولا جيل من الأجيال إلا وكانت له إضافة إلى هـذه الحصيلة العلمية – صغرت أو كبرت – وإن لواء قيادة المعرفة العلمية قد تبادلته أمم متعددة في تاريخ الإنسانية الطويل.
من هـنا كان الدخول إلى دائرة المعارف العلمية المعاصرة مسموحا لكل قادر عليها، مهيأ لها، مزود بأخلاقياتها وقيمها ومناهجها، ومن هـنا أيضا توفر لنا في عالمنا الإسلامي المعاصر – على تخلفه – أمثلة مشرفة لأعداد غير قليلة من العلماء البارزين في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية، ولكن هـذه العناصر العلمية المتميزة لم تتمكن بعد من تحقيق التقدم العلمي المنشود، والذي هـو عملية جماعية على مستوى الأمة، وليس عملا فرديا أو شبه فردي، تقوم به جماعة محدودة من المتخصصين.
والتقدم العلمي لا يمكن أن يكون عملية فردية حتى لو توفرت الكفاءات العلمية الفاذة؛ لأنه عملية إدارية، اجتماعية، علمية، تتكاتف فيها الجهود من قبل الدولة والشعب بصورة متناسقة. والتقدم العلمي لأمة من الأمم يعرف بقدرتها على مسايرة العصر في الإلمام بكافة المعارف المتاحة عن الإنسان والكون والحياة، عن المادة على اختلاف أشكالها، وعن الطاقة على تعدد هـيئاتها، وعن الأحياء على تباين أنواعها، وما يحكم ذلك من السنن والقوانين، ويصاحبه من الظواهر والأنشطة، وذلك بتكوين المتخصصين القادرين على استيعاب تلك المعارف ونقدها وتطويرها وإثرائها، وبتأسيس المنشآت اللازمة للتعليم والتدريب عليها، وإجراء البحوث اللازمة لاطراد نموها وتقدمها، واستمرار تدفق نتائجها، وتسجيل تلك النتائج وتحليلها ونشرها، وتبويبها وتوثيقها، من الجامعات والمعاهد المتخصصة، ومراكز البحوث المتنوعة، والمكتبات العامرة، ووسائل الاستنساخ والإيضاح الميسرة، والأجهزة المتطورة وغيرها، وكذلك بإيجاد المؤسسات الحكومية والشعبية التي تقوم على رعاية نهضة علمية حقيقية من وزارات وإدارات للبحث العلمي، ومجالس [ ص: 42 ] لرعايته، وجمعيات لمختلف تخصصاته، ونقابات لرعاية أفراده، ووسائل إعلامية متعددة لنشره، ونواد لتدريب الناشئة على حبه، ودوريات تخاطب الخاصة والعامة عن آخر معطياته، وحوافز لمختلف العاملين فيه، حتى يحدث في المجتمع وعي علمي عصري متقدم يعايش زمانه، ويسعى لتحقيق قصب السبق فيه، ويؤثر في المجتمع على مختلف مستوياته؛ لأن دور العلم هـو تنوير البشرية بأسباب المعرفة، وبمعرفة علل الأشياء.
ومجالات البحث العلمي عديدة ومتنوعة، إلا أنها تتشابك وتتعاون في محاولات الإنسان للكشف عن أسرار هـذا الكون، إلا أنه من الممكن حصرها في الأبواب الرئيسة التالية:
(1) البحوث الأساسية (البحتة) : وتهدف أساسا إلى اطراد تقدم المعارف العلمية، وذلك من خلال سلاسل من البحوث الأصيلة التي تؤدي نتائجها إلى المزيد من المعرفة بحقائق الكون، بغض النظر عن إمكانية تطبيقاتها العملية.
(2) البحوث التطبيقية: وتهدف إلى تطويع نتائج البحوث الأساسية لخدمة الإنسان بطرق مباشرة أو غير مباشرة، أو إلى توجيه البحوث العلمية ابتداء إلى ذلك، ومن هـنا فهي تهتم بتحويل مخزون المعرفة العلمية إلى استخدامات عملية مفيدة.
(3) البحوث الصناعية: وتهتم بتطوير مراحل الإنتاج الصناعي المختلفة وأنماطه المتعددة، كما تهتم بتطوير مراحل الاختبار والتصميم، ومراحل التحسين التي تتبع الاختراعات المختلفة، وذلك في محاولة لتطوير الصناعة بصفة عامة.
(4) البحوث العسكرية: وهي بحوث موجهة أساسا لخدمة القضايا العسكرية المختلفة، وإن شملت الأبواب الثلاثة السابقة وبحوثها البحتة والتطبيقية والصناعية. [ ص: 43 ]
ويختلف العلماء اختلافا كبيرا في قبول هـذه التقسيمات أو رفضها، إلا أنهم يلتقون جميعا من خلال أسلوب التفكير العلمي ومنهجيته، وأخلاق العلماء ونزاهتهم، ووحدة المعرفة الإنسانية وتكاملها.. على أن تبويب المعارف، وتوزيع الأدوار هـو من قبيل التيسير على الإنسان الذي لا يستطيع بحسه المحدود، ولا بقدرات عقله وذاكرته المحدودة أن يلم بأطراف فرع واحد من فروع المعرفة الإنسانية، فضلا عن الإلمام بأطرافها جميعا، في زمان تشعبت فيه المعارف، واتسعت دوائرها، وتسارع عطاء الباحثين لها، وتنوعت وسائط النشر العلمي عنها، وتعددت المؤتمرات المعقودة لها بطريقة يصعب تتبعها، ومن هـنا كان دور العلماء الموسوعيين الذين يهتمون بالربط بين المعطيات الكبرى للتخصصات المختلفة دون الخوض في التفصيلات الدقيقة، دورا بارزا في الوصول إلى الاستنتاجات الكلية التي يحتاجها الإنسان.