الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مفهوم التقدم العلمي والتقني في الإسلام إذا كان مفهوم التقدم العلمي والتقني في مجتمع من المجتمعات يتحدد بمخزون المعرفة المتاحة لهذا المجتمع في وقت معين، وقدرته على توظيف ذلك المخزون في عملية تنموية تحقق العمارة المادية للحياة بمستوى العصر، مع القدرة على تحسين وتطوير هـذا المستوى، والنهوض المستمر بالمعرفة العلمية، وبالتقنيات المتاحة، فإن ذلك يتسع في الإسلام ليشمل النمو الإنساني بجميع أبعاده حتى يصل بالإنسان إلى مقام التكريم الذي وصفه الحق تبارك وتعالى بقوله: ( ولقد كرمنا بني آدم ) [الإسراء:70].

              ويتسع مفهوم التقدم العلمي والتقني في الإسلام ليتخطى حدود المفاهيم المادية الصرفة التي يقتصر مردودها على التقدم الاقتصادي البحت والاستعلاء العسكري المتجبر، وما يرتبط بهما من نشاط عمليات التصنيع، وزيادة الإنتاج، والسيطرة على الأرض، والاستفادة بثرواتها، والتحكم في بيئاتها ليشمل جميع أبعاد النمو الشامل بالإنسان أفرادا ومجتمعات نموا متكاملا لمختلف المواهب والملكات، ابتداء بالقدرة على توفير الاحتياجات المادية (التي تمكنه من القيام بواجب الاستخلاف في الأرض، وعمارة الحياة على سطحها) ، وانتهاء بتطلعاته الروحية والفكرية والأخلاقية والغيبية (التي تعينه على تحقيق ذاته عبدا لذلك الخالق العظيم) .

              فالمسلم لا يرى في البحث العلمي مجرد جري وراء الكشف عن أسرار الكون، وقوانين الله فيه لتطبيق تلك الكشوف والقوانين في استثمار ثروات [ ص: 72 ] الأرض وإحكام السيطرة عليها، وهي من واجبات الاستخلاف كما سبق وأن أشرنا بل يرى فيه - فوق ذلك – طريق المستكشف إلى الله، ووسيلته للتعرف على خالقه العظيم، وهما من واجبات العبودية لله، تلك العبودية التي تمثل الضمان الوحيد لعدم استخدام معطيات العلوم والتقنية في غير طاعة الله – فضلا عن سوء توظيفهما في العديد من صور الفساد المنتشرة في الأرض اليوم.

              والمسلم لا يرى في الكون عدوا له من الواجب أن يقهره ويقف في وجهه ويتحداه، وإنما يرى في خلقا سخره له الله، ينسجم معه بالطاعة كما ينسجم بتفهم السنن الإلهية التي تحكمه، ويتوافق مع ظروفه بالالتزام بالحق، كما يتوافق بتفهم القوانين التي تحكم تلك الظروف، ويرضى بكل مجريات الأمور فيه بعد استنفاد طاقاته، وأقصى جهده، لا رضا المقهور، ولكن رضاء المستسلم لله، الذي يوقن أن أمور الكون وما فيه كلها بيد الخالق العظيم.

              والمسلم لا يرى في نضوب ثروة من الثروات الأرضية أو في قرب نضوبها أمرا مخلا بالقيم والموازين تحاك من أجله المكائد، وتنصب الشراك، وتحرك المؤامرات، وتشن الحروب، ولكنه يرى الرزق دوما من الله، هـو الذي يقدره ويحدده ويجود به، وهو سبحانه القادر على أن يقلب جنبات الأرض ويخرج لنا منها من الخيرات ما نعلم وما لا نعلم، وما هـو به أعلم، هـذا كله في غير كسل مخل، أو تواكل مذل، يخرجان بالإنسان عن أصول الالتزام بواجبات الاستخلاف في الأرض أو يهبطان به إلى ما دون منزلة التكريم التي كرمه بها الله.

              وعلى ذلك فالبحث العلمي في الإسلام ليس مجرد وسيلة لاكتساب العيش، أو تحقيق المجد الشخصي والشهرة الذاتية، ولا مجرد أسلوب من أساليب الغلبة في الأرض، والتجبر على المستضعفين من سكانها، إنما هـو سبيل من سبل الحق تبارك وتعالى، ووسيلة من وسائل تحقيق الإنسان لرسالته في الحياة عبدا لله، مستخلفا في الأرض، مطالبا بعبادة الله كما أمر، وبالقيام على عمارة الحياة قدر الاستطاعة في غير ضرر ولا ضرار، والبحث العلمي في [ ص: 73 ] الإسلام إذا تم في هـذا الإطار أصبح ضربا من ضروب العبادة، يتعرف به العبد على خالقه من خلال تعرفه على بديع صنع الله، وهو فرض كفاية تأثم الأمة كلها بإهماله وتركه.

              وإذا كان الأمر كذلك فما بال الأمة الإسلامية قد تخلفت اليوم في مجال العلوم والتقنية؟ وما أسباب ذلك؟ هـذا ما سوف نناقشه في باب مستقل تحت عنوان "أسباب التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر"، وإن كان من اليسير إرجاع ذلك إلى نفس الأسباب التي أدت إلى تخلف المسلمين عامة في هـذه الأيام. [ ص: 74 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية