الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الفصل السابع

              مقومات ووسائل التقدم العلمي والتقني في العالم الإسلامي المعاصر

              أولا: المقومات مما سبق يتضح أن مقومات أي تقدم إنساني هـو الإنسان ذاته، ولما كان الإنسان اتزانا دقيقا بين مادة وروح، وجب أن يكون التقدم الإنساني شاملا لهذين الجانبين فيه، وإلا أصبح أعرج إذا سار في اتجاه واحد دون الآخر.

              ولما كان الجانب المادي في الإنسان خاضعا للمنهج العلمي التجريبي – على حين أن الروح فيه من أمر الله – كان الإنسان في حاجة إلى الوحي السماوي المنزل تعليما من الله، حاجته إلى العلوم التجريبية وتطبيقاته، وإلى مختلف مجالات التقنية وحسن توظيف ذلك كله في خدمة قضية التنمية كي يستطيع القيام برسالته في هـذه الحياة.

              ولما كان الإسلام – متكاملا في رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم – هـو آخر الرسالات السماوية وأتمها وأعمقها وأكملها، والرسالة الوحيدة التي نزلت للناس كافة، ومن ثم تعهد الله تعالى بحفظها فحفظت، في حين ضيعت الرسالات السابقة كلها أو حرفت أو بدلت، فإن أول مقومات التقدم البشري – ومن أسسه التقدم العلمي والتقني – هـو الإسلام ذاته – ولو أن المسلمين وعوا هـذه الحقيقة حق وعيها ما وجدوا أنفسهم فجأة، وعلى مدى فترة [ ص: 131 ] لا تتجاوز نصف القرن – في مؤخرة الأمم علميا وتقنيا، بعد أن ظلوا لقرون طويلة رواد التقدم وحاملي اللواء.

              هذا من ناحية التقدم الروحي ومقوماته، أما من ناحية التقدم المادي ودعائمه، فإن الإسلام يقرر أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، ولذلك فإنه يعتبر المحافظة عليها، وحسن استثمار ثرواتها، وصون بيئاتها فرضا واجبا على كل إنسان، وهو فوق ذلك يعتبر الأخوة الإنسانية من حقائقه الرئيسة ( كلكم لآدم وآدم من تراب ) ، وعليه فإنه يعتبرها من أسس الوجود في هـذه الدنيا. ولكن في ظل التكتلات العسكرية والسياسية والفكرية والعقائدية المعاصرة لا مناص لنا من التحدث عن العالم الإسلامي ككتلة واحدة حباها الله تعالى بنصيب وافر من الثروات التي يمكن إيجازها فيما يلي: (1) مقومات بشرية يفوق تعداده الألف مليون نسمة، تتوزع في أكثر من خمسين دولة مستقلة، وعلى هـيئة أعداد متباينة من الأقليات في كافة دول العالم.

              ويمثل هـذا التعداد قرابة ربع سكان العالم، ويضم ملايين العلماء والمهندسين والأطباء والفنيين، والأدباء والمفكرين، والمقاتلين الأشداء، وسائر الحرفيين والمتخصصين في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية (على الرغم من تفشي الأمية في قطاع كبير ممن هـم بين ظهرانيهم) ، ويمثل ذلك أكبر تجمع بشري على وجه الأرض تربطه عقيدة واحدة. (2) مقومات أرضية تبلغ مساحة الدول المكونة للعالم الإسلامي أكثر من أربعين مليون كيلومتر مربع، ويمثل ذلك أكثر من ربع مساحة اليابسة (التي تقدر بـ148.354.000 كيلومتر مربع) ، ويزيد في قيمة تلك المساحة الشاسعة اتصالها مع بعضها، وتوسطها دول العالم، وتكاملها من ناحية المناخ والتضاريس وطبيعة الأرض، وتعدد ثرواتها، وتنوع مصادر المياه فيها، وكثافة سكانها، وعراقة حضاراتها، وقدم ارتباطها برسالات السماء. (3) مقومات بحرية يطل العالم الإسلامي على مسطحات مائية عديدة تخترقها أهم خطوط المواصلات البحرية في العالم، وله موانئ هـامة على كل من [ ص: 132 ] المحيط الأطلسي والهندي والهادي، وكل من البحر الأبيض والأحمر والأسود، وبحر قزوين ، كما يتحكم في مداخل كل من المحيط الهندي والبحر الأحمر والأبيض والأسود، هـذا بالإضافة إلى عدد من المسطحات والقنوات المائية الهامة التي تعتبر إسلامية بأكملها مثل البحر الأحمر، والخليج العربي ، وبحر عمان ، والبحر العربي ، وبحر مرمرة ، وقناة السويس . (4) مقومات اقتصادية وهذه تشمل مقومات زراعية وحيوانية عديدة، ومصادر للطاقة هـائلة،، وثروات تعدينية لم تقدر تقديرا نهائيا بعد، ومنشآت صناعية مختلفة، ويمكن إيجاز ذلك فيما يلي:

              (أ) الثروة الزراعية: وتتمثل في أكثر من أربعمائة مليون من الأفدنة المزروعة في مناطق مناخية مختلفة تعطي محاصيل متكاملة (وتشكل هـذه 11% من مساحة الأرض المزروعة في العالم) ، 394 مليون هـكتار من الغابات (تشكل 9.7% من مساحة الغابات في العالم) ، هـذا بالإضافة إلى مساحات شاسعة من الأرض الصالحة للزراعة والتي لم تزرع بعد، ومن الواجب العمل على استزراعها في أقرب وقت ممكن حتى يتمكن المسلمون من إنتاج غذائهم، بدلا من استجدائه من غيرهم تحت الكثير من القيود والضغوط والابتزاز والاستغلال، خاصة وأن هـؤلاء (الآخرين) قد بدأوا يلوحون بالتهديد بتجويعهم، وأن شبح المجاعات بدأ فعلا يتهدد العالم بأسره.

              وفي مقدمة الدول الإسلامية المرشحة لعملية التوسع الزراعي والتنمية الزراعية كل من: السودان ، والعراق ، ومصر ، وسوريا ، وبنجلاديش ، وباكستان ، وماليزيا ، وإندونيسيا ، والمملكة العربية السعودية ، على الرغم من عدم وجود أنهار جارية بها، وقد توسعت السعودية مؤخرا في عملية الزراعة توسعا ناجحا، خاصة في زراعة القمح الذي صدرت منه إلى كل من: مصر والاتحاد السوفييتي ، وقد تم كل هـذا التوسع اعتمادا على المياه تحت السطحية والتي تتمتع المملكة بمخزون ضخم منها، وإن نجاح المملكة العربية السعودية في الزراعة - وهي التي تقع في قلب الحزام الصحراوي لدليل قاطع على إمكانية [ ص: 133 ] استزراع مساحات أكبر بكثير من المزروع حاليا في دول العالم الإسلامي كافة، فمن رحمة الله تعالى أن صحارى الأرض لم تكن كذلك عبر تاريخها الطويل، بل هـناك أدلة علمية عديدة تؤكد على أن هـذه الصحارى كانت مروجا وأنهارا طوال العصر الجليدي الأخير للأرض، والذي كان ممثلا في منطقتنا بعصر شديد الأمطار امتد من 1.8 مليون سنة إلى عشرة آلاف سنة مضت، وفي الثلاثين إلى الأربعين ألف سنة الأخيرة تم تخزين كميات كبيرة من مياه الأمطار تلك بين مسام الصخور العالية النفاذية والمكونة للأجزاء السطحية من قشرة الأرض.

              (ب) الثروة الحيوانية: يربى على أرض العالم الإسلامي ملايين الرءوس من الماشية (10.8% من مجموع عدد القطيع العالمي) ، والأغنام (24%) والماعز (37%) ، والإبل (76%) ، ويشتهر في ذلك كل من: أفغانستان ، إيران ، تركيا ، العراق ، المغرب ، السودان ، باكستان ، والجزائر . وتقوم على هـذه الثروة الحيوانية صناعات مختلفة من مثل: منتجات الألبان، وغزل ونسج الصوف، والصناعات الجلدية، وغيرها.

              هذا، وتنتج الدول الإسلامية مجتمعة حوالي 6% من الإنتاج العالمي من الأسماك، وغيرها من الحيوانات البحرية الصالحة لغذاء الإنسان، وهو رقم ضئيل إذا قورن بتعداد المسلمين، وبالمساحات المائية الشاسعة التي يسيطرون عليها، ومن هـنا تتضح ضرورة الاهتمام بالثروات المائية المختلفة.

              (ج) مصادر الطاقة: يملك العالم الإسلامي ما يتراوح بين 72% و77% من احتياطي النفط العالمي، وأكثر من 25% من احتياطي الغاز الطبيعي، بالإضافة على تقدير مبدئي للفحم الحجري يبلغ 1% من احتياطي العالم.

              هذا بالإضافة إلى نسب متفاوتة من المواد المشعة لم تقدر تقديرا نهائيا بعد، خاصة اليورانيوم أكثر من 45% من الاحتياطي العالمي.

              وهناك أيضا الطاقة الشمسية كمصدر هـام من مصادر الطاقة في مختلف دول [ ص: 134 ] العالم الإسلامي التي تتمتع بساعات طويلة من سطوع الشمس خلال أغلب أيام السنة، إضافة إلى مصادر الطاقة المائية والهوائية والهيدروجينية، وهي كلها من مصادر الطاقة التي ليست لها نواتج ملوثة للبيئة أو مهددة للبشرية.

              (د) الثروة التعدينية: على الرغم من أن معظم أراضي العالم الإسلامي لم يتم مسحها بعد مسحا علميا مفصلا باستخدام الوسائل التقنية الحديثة، إلا أن الدراسات المحدودة التي أجريت حتى الآن أثبتت وجود العديد من الخامات الاقتصادية منها خامات المعادن الفلزية من مثل: القصدير (25% من احتياطي العالم) ، والكروم (23%) ، والمنجنيز (9.2%) ، والرصاص والزنك (6%) ، والحديد (5%) ، والنحاس (4%) ، والألومنيوم، والكوبالت، والنيكل، والأنتيمون، والذهب والفضة، والزئبق والموليبدينوم، والتنجستن، والفاناديوم، والكولومبيوم، والتنتالوم (وهي موجودة بنسب متفاوتة يستغل بعضها اليوم استغلالا اقتصاديا وإن كانت لم تحدد تحديدا نهائيا بعد) .

              وكذلك يوجد العديد من خامات المعادن غير الفلزية، ومن أهمها: الفوسفات (45% من احتياطي العالم) ، والأملاح التبخرية (من مثل: أملاح الصوديوم، والبوتاسيوم، والكالسيوم، والأسترونشيوم، والبورون، واليود، والبرومين) ، وخامات المواد الحرارية ومواد البناء، والعديد من المواد الكيميائية الأخرى التي لها قيمة كبيرة في الصناعة من مثل: الكبريت، والكادميوم، وخامات المعادن المشعة (وفي مقدمتها اليورانيوم الذي يوجد على هـيئات متعددة من أهمها اليورانيوم المصاحب للفوسفات في خاماته، والذي يمكن أن يشكل احتياطيا هـاما لهذا العنصر المشع، نظرا لضخامة احتياطي الفوسفات في دول العالم الإسلامي، وسهولة استخراج اليورانيوم كناتج ثانوي منه أثناء تصنيع السوبر فوسفات) .

              وربما كان تأخر المسلمين في اكتشاف ثرواتهم التعدينية واستغلالها لحكمة لا يعلمها إلا الله، وذلك لأن العالم قد استنفد ثرواته من خامات المعادن ( أو [ ص: 135 ] كاد –، نتيجة لعملية الاستنزاف المخل التي تعرضت لها تلك الخامات خلال القرن الحالي بصفة خاصة لدرجة أصبحت معها احتياجات العالم على مدى ربع القرن القادم أكثر من الاحتياطات المؤكدة في أغلب الحالات، وهنا تبرز خامات العالم الإسلامي كاحتياطي مأمول، ولكنه احتياطي يحتاج إلى الكفاءات العلمية والتقنية القادرة على استخراجه وتصنيعه، وإلى الرجال الأشداء القادرين على حمايته من شر الدول الصناعية الكبرى، وتطلعهم بنهم إليه.

              (5) مقومات تعليمية وتدريبية: تضم دول العالم الإسلامي اليوم أكثر من 224 جامعة، 335 معهدا عاليا من المعاهد المتخصصة، بالإضافة إلى ما يفوق التسعمائة من مراكز البحوث وأكاديميات العلوم والتقنية، وخمسة عشر مركزا ومؤسسة للطاقة الذرية والنظائر المشعة (يتركز منها خمسة في الباكستان ، وثلاثة في تركيا ، واثنان في مصر ، ومركز واحد في كل من: أفغانستان ، وإيران ، والعراق ، والجزائر ، وتونس ) .

              هذه الثروات المتعددة تشكل الدعائم المادية لنهضة علمية وتقنية كبيرة، ولكنها اليوم مبعثرة، ولا بد لها أن تجمع إذا أريد للأمة الإسلامية أن تلحق بالركب. وليس ذلك بالأمر المستبعد، خاصة وأن أمامنا أمثلة كثيرة على نهضة الأمم بعد تدهورها (منها صحوة كل من ألمانيا الغربية واليابان بعد تدميرهما تدميرا كاملا إبان الحرب العالمية الثانية ، وتقدم كل من الصين والهند وكوريا الجنوبية في مجال العلوم والتقنية، وقد كانت لهما – إلى عهد قريب – أوضاع من التخلف تفوق أوضاعنا الراهنة سوءا وتدهورا) .

              ثم إن هـذه النهضة العلمية والتقنية المأمولة إذا تحددت بالإطار المادي فقط فإنها لن تزيد عالمنا المضطرب إلا قوة جديدة تضاف إلى حدة الصراع فيه. ومن هـنا فإنها يجب أن تكون نهضة علمية، تقنية، إسلامية شاملة في كل اتجاه. نهضة الأمة الوسط التي تستشعر مسئولية القيادة، والتزامات الأخوة الإنسانية، وتبعات المصير الواحد. فالطاقات المسلمة الهائلة ممزقة اليوم تحت [ ص: 136 ] وطأة العديد من الأنظمة الوضعية المتباينة التي تكاد أن تسحقها وتشل فاعلياتها، وكلها نظم مستوردة، غريبة على أمتنا، وعلى تراثها وأخلاقها وتقاليدها.

              وقد آن الأوان لهذه الملايين المسلمة المتطلعة إلى نور الشريعة الربانية، ورحمة العدل الإلهي أن تعود إلى الإسلام من جديد حتى تتقلد دورها الرائد الذي وصفه الحق تبارك وتعالى بقوله: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) [آل عمران:110]. خاصة وأن الناس في كافة أنحاء الأرض قد بدأوا يتلمسون طريقهم إلى الإسلام، وأخذوا يقبلون عليه في مد لم تعرف له البشرية نظيرا من قبل، بعد أن سئموا حياة المادية الحيوانية الخاوية، الخالية من الروح. وإن المعطيات الكلية للعلوم في هـذا العصر قد تجمعت لتؤكد على ضرورة الإيمان بالله، وعلى صدق الرسالة المحمدية. وإذا لم يدرك المسلمون ذلك فيبادروا بجمع طاقاتهم المبعثرة في خطة محكمة هـدفها إعادة بعث الأمة على أسس إسلامية سليمة، وهداية الإنسانية إلى نور الرسالة الربانية التي حملوا أمانتها، وائتمنوا على تبليغها، فإن مصيرهم، بل ومصير الناس على هـذه الأرض كافة سيكون مظلما أليما.

              وهنا تحضرني كلمة للأستاذ ت.ب. إيرفنج، الأستاذ بجامعة تنسي الأمريكية، حينما وقف مخاطبا تجمعا للمسلمين في مدينة جلاسجو ببريطانيا منذ سنوات قال فيها: "إنكم لن تستطيعوا أن تنافسوا الدول الكبرى علميا، أو تقنيا، أو اقتصاديا، أو سياسيا، أو عسكريا، ولكنكم تستطيعون أن تجعلوا تلك الدول تجثوا على ركبها أمامكم بالإسلام، أفيقوا من غفلتكم لقيمة هـذا النور الذي تحملون، والذي تتعطش إليه أرواح الناس في مختلف جنبات الأرض، تعلموا الإسلام وطبقوه، واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويدن لكم كل ذي سلطان، أعطوني أربعين شابا ممن يفهمون هـذا الدين فهما عميقا، ويطبقونه على حياتهم تطبيقا دقيقا، [ ص: 137 ] ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر وأسلوبه، وأنا أفتح بهم الأمريكتين".

              فهل يمكن لقادة العالم الإسلامي ومفكريه وشبابه المثقف أن يعوا هـذا الكلام، ويقدروه حق قدره، فيعملوا على إخراجه إلى حيز التنفيذ وبأسرع وقت ممكن؟

              وهنا يبرز التساؤل عن وسائل وأساليبه، وأوجزها فيما يلي:

              التالي السابق


              الخدمات العلمية