أولا: الأسباب المادية لتخلف مسلمي اليوم علميا وتقنيا (1) تمزق العالم الإسلامي المعاصر إلى أكثر من خمسين دولة
[1]
بالإضافة إلى أقليات منتشرة في كل دولة من الدول غير الإسلامية، تفوق أعدادها مئات الملايين في بعض هـذه الدول، واحتلال أجزاء عديدة من أراضي المسلمين مما أدى إلى تشتيت المقومات المادية والروحية والطاقات البشرية للمسلمين؛ في وقت أخذ العالم فيه الاتجاه إلى التوحد في تكتلات اقتصادية وسياسية وعسكرية، ولم يعد فيه وجود مستقل، أو إمكانية لمستقبل لأية تجمعات بشرية يقل تعدادها عن مائة إلى مائة وخمسين مليون نسمة. [ ص: 114 ]
وقد أدى تفتيت العالم الإسلامي إلى إفقاره على الرغم من ثرواته البشرية والطبيعية الهائلة، فالغالبية العظمى من سكان الدول الإسلامية اليوم (باستثناء الدول النفطية) تعيش تحت الحد الأدنى للكفاف اللازم لصون كرامة الإنسان، وذلك بتباين واضح في متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي والذي يتراوح بين 0.2 دولارا في اليوم للفرد، أي في حدود 73 دولارا في السنة في دولة إسلامية مثل تشاد، و63 دولارا في اليوم للفرد في كل من دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة بروناي (أي في حدود 23.000 دولار في السنة) .
ويرتفع متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي في السنة إلى 980 دولارا أمريكيا بسبب الارتفاع الكبير للدخول القومية في بعض الدول، وبدلا من أن يكون هـذا المتوسط الأمر السائد في الدول الإسلامية، حيث يأخذ الأخ بيد أخيه ويعين القوي الضعيف، ويعطي الغني الفقير، انقسم العالم الإسلامي إلى دول متخمة بالثراء إلى حد البطر، وأخرى معدمة إلى حد الفاقة.. وبسبب ذلك فقد أهملت عمليات التنمية البشرية والمادية: أهمل التعليم، وبإهماله تفشت الأمية وساءت الأحوال الصحية، كما أهملت التنمية الزراعية والصناعية والاجتماعية في غالبية الدول الإسلامية، وبإهمالها تقلص الاقتصاد، وزادت الديون، وغرقت الأمة في الربا ، ولم يعد هـناك مجال للأخذ بأسباب التقدم العلمي أو التقني، خاصة وأن الدول الإسلامية الكبرى يعوزها المال، وأن الدول الغنية – وهي القادرة ماديا على ذلك – يعوزها الكفاءات العلمية والتقنية والطبية والتعليمية والإدارية، كما تعوزها العمالة الماهرة، ولسد حاجتها من هـذه الكفاءات لجأت على غير الدول الإسلامية في أغلب الأحيان.. والواقع المرير يؤكد على أن توطين التقنية لا يمكن أن يتم بأيد مستوردة، ولا بأفكار وتصورات وقيم غريبة، ولا بمهارات فنية وإدارية واقتصادية أجنبية، وأقصد بلفظة (الأجنبية) هـنا غير الإسلامية، لا كما يطلقها دعاة العصبيات الإقليمية الضيقة، على غالبية أبناء الأمة الإسلامية انطلاقا من أنانيتهم [ ص: 115 ] المفرطة، مع إدراكهم أنه لا وجود لهم بهذه الأعداد القليلة وسط عالم التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية الكبيرة.
ويحزنني أن الكثيرين من أصحاب القرار يفضلون حثالات الغرب والشرق من غير المسلمين على الكفاءات الإسلامية المتميزة انطلاقا من مركبات النقص العديدة تجاه أصحاب العيون الزرق بصفة عامة، على الرغم من أن الممارسة قد أثبتت أن الوافدين إلى العالم الإسلامي من خبراء الشمال لا يخرج الكثير منهم عن كونهم عملاء للاستخبارات الأجنبية للحملات التنصيرية أو سقط متاع لم يستطع أن يشق طريقه في عالمه المتطور حيث المنافسة على أعلى مستوى ممكن.
كما أثبتت الأيام أن أي مشروع نفذ بأيد غير إسلامية هـو فرصة ضيعت على أبناء الإسلام وإلى الأبد، وكان من الأصلح للأمة أن ينفذ بأيدي أبنائها، ولو من قبيل التدريب وزرع الثقة بالنفس، فضلا عن توفر الإخلاص والحرص على المصلحة العامة، والاحتفاظ بالأسرار وهي من الضروريات التي يفتقر إليها غالبية المنفذين من غير المسلمين، حتى لو كانوا أعلى كفاءة وأكثر خبرة.
وينقسم العالم الإسلامي اليوم من حيث نصيب الفرد من الدخل القومي إلى الشرائح التالية:
(أ) دول ذات دخول منخفضة: لا تتعدى أربعمائة دولار في السنة للفرد، وتشمل كلا من: أوجادين ، أرتيريا ، أفغانستان ، باكستان ، بنجلاديش ، بنين ، بوركينا فاسو ، تشاد ، تنزانيا ، توجو ، جزر المالديف ، جامبيا ، غينيا ، غينيا بيساو ، موريتانيا ، مالي ، النيجر ، ساحل العاج ، سيراليون ، الصومال ، السودان ، أوغندا . وهي تمثل نصف عدد الدول الإسلامية تقريبا (24 دولة) ، وقرابة النصف من تعداد سكانها.
(ب) دول ذات دخول متوسطة: تتراوح بين أربعمائة وستمائة دولار للفرد في السنة، وتشمل كلا من: إندونيسيا ، إيران ، الأردن ، الجزائر ، [ ص: 116 ] الكاميرون ، جيبوتي ، لبنان ، مصر ، الجابون ، العراق ، المغرب ، نيجيريا ، السنغال ، سوريا ، تونس ، تركيا ، ماليزيا ، فلسطين المحتلة ، الجمهورية العربية اليمنية ، وجمهورية اليمن الشعبية .
(ج) دول ذات دخول مرتفعة: تتعدى الستة آلاف دولار للفرد في السنة، وتشمل كلا من: دولة الإمارات العربية المتحدة ، البحرين ، بروناي ، عمان ، قطر ، الكويت ، ليبيا ، والمملكة العربية السعودية .
ويرجع السبب الرئيس لهذا التباين الكبير في متوسط دخول الدول الإسلامية إلى عامل التجزئة والكيانات المصطنعة التي رسمت حدودها الراهنة القوى الاستعمارية العالمية (وفي مقدمتها: بريطانيا ، وفرنسا ، وإيطاليا ، وهولندا ) وحافظت عليها لتبقى الأمة الإسلامية على هـذه الصورة من التفتت الذي لا يمكن أيا من دولها من القيام بذاته، أو من تشكيل وحدة اجتماعية/اقتصادية متكاملة أو شبه متكاملة.
وإمعانا في هـذا التفتيت وظفت القوى الاستعمارية الشيطانية – ولا تزال – كل مبررات الفرقة بين هـذه الكيانات الممزقة، من خلافات حدودية، وسياسية، وقبلية، وعرقية، ومذهبية، وطائفية، وفكرية، وغيرها في إبقاء على فرقتها، وإشعال الحروب الباردة والساخنة بينها، والعدوات الشخصية بين زعاماتها.
وبهدف الحيلولة دون قيام أدنى قدر من التعاون بين الأشقاء ودون تحرك المال الإسلامي إلى الدول الإسلامية الفقيرة على شكل استثمارات تعين على تنشيط عملية التنمية، أحدث الدول الكبرى جوا من عدم الاستقرار السياسي، والفوضى الاقتصادية التي لا تشجع على تحرك أية أموال إليها، فلا تجد فوائض أموال الدول طريقها إلا إلى خزائن وبنوك الدول الكبرى، وتبلغ اليوم أكثر من ستمائة مليار من الدولارات، بينما الدول الإسلامية الفقيرة تئن تحت وطأة الديون. وتضطر إلى أن تلوث حياتها وحياة أبنائها بالربا الفاحش الذي [ ص: 117 ] يضاعف ديونها أضعافا كثيرة على مر السنين، ويزيد من تبعيتها للدول الكبرى حتى ولو كان ذلك على حساب دينها، وعقيدتها، وأخلاقها، وقيمها الكبرى، وضد مصالحها ومصالح أبنائها.
وإنه لمن السخرية حقا أن الدول الكبرى تدعي أن فائض الأموال يستثمر اليوم في دول العالم الثالث على هـيئة قروض حكومية، فكأنها تستعبد المسلمين بأموال المسلمين، وتغرق المقرض والمستقرض في أوحال الربا ، وكان الأجدر بأموال المسلمين أن تتداول بينهم بغير وصاية أو ابتزاز من أعدائهم، أو اضطرار إلى الخروج على أوامر ربهم والخوض في وحل الربا، وهو الانحراف الذي توعد الله تعالى الواقع فيه بحرب من الله ورسوله.
من هـذه العجالة يتضح لكل ذي بصيرة كيف أن تمزيق الأمة الإسلامية إلى دول، ودويلات كثيرة قد أدى إلى إضعافها اقتصاديا وسياسيا وحضاريا، وإلى تخلفها علميا وتقنيا، وإلى تشتيت مقوماتها المادية والمعنوية، وإلى تفتيت طاقاتها البشرية، وإلى إذكاء نيران العصبيات المنتنة، والإقليميات الضيقة في عالم يتجه إلى التكتلات السياسية والاقتصادية والعسكرية الكبرى، ولا وجود فيه للكيانات الهزيلة.
وإذا أراد المسلمون اليوم النهوض من كبوتهم فعليهم أن يعيدوا في نفوسهم إحياء معنيين أصوليين هـامين: أولهما شمول الإسلام، وثانيهما وحدة الأمة الإسلامية. فإذا آمنت القيادة الفكرية والسياسية في عالمنا الإسلامي المعاصر بهذين الأساسيين الشرعيين، ودعت إليهما، وعملت جاهدة على تحقيقهما بخطى وئيدة متزنة، وتخطيط بعيد النظرة عميق الرؤية، تبلور الأمل في إمكانية نهضة الأمة من كبوتها واجتياز فترة التخلف التي عاشتها، وفي مقدمة ذلك التخلف العلمي والتقني والتخلف الاقتصادي والسياسي، الذي يمكن أن توظف كل طاقات الأمة المادية والبشرية لاجتيازه وتخطيه إذا توحدت الأمة وتكاتفت إمكاناتها وطاقاتها. [ ص: 118 ]
(2) تفشي الأمية بين المسلمين البالغين في هـذا العصر:
تفشت الأمية بين المسلمين البالغين (أكبر من 15 سنة) في هـذا العصر بصورة مزعجة تتراوح نسبتها بين 50% و 80% (بمتوسط حوالي 58%) ، بينما تقل نسبة الأمية عن 2% في دول الشمال، ولا تتعدى هـذه النسبة 45% في المتوسط في دول العالم الثالث بصفة عامة. وهذا يعني بوضوح أن أعلى نسبة للأمية بين البالغين في العالم في الدول الإسلامية المعاصرة، على الرغم من أن القرآن الكريم نزلت أولى آياته آمرا بالقراءة والكتابة، وتعظيما لأدواتهما:
( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ) [العلق:1- 3].
وأن القرآن الكريم يعظم العلم والعلماء: ( قل هـل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) [الزمر:9]،
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ) [المجادلة:11].
وعلى الرغم من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفدي الأسير من أسرى بدر بتعليمه عشرا من المسلمين القراءة والكتابة، وعلى الرغم من أن المسلمين أقاموا أجهزة تربوية كاملة منذ بعثة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، حتى لم يكد يطلع القرن الهجري الثاني إلا وكان ذلك الجهاز التربوي الإسلامي قد انتشر في جميع أجزاء الدولة الإسلامية المترامية الأطراف (والممتدة من بخارى وسمرقند شرقا إلى الأندلس غربا) ، ابتداء من الكتاتيب، إلى المدارس، إلى المساجد، إلى حلقات العلم ودوره، وبيوت الحكمة، والجامعات، من مثل: الزيتونة، والقرويين، والأزهر الشريف، هـي أول نماذج للجامعات عرفتها البشرية. [ ص: 119 ]
ولقد بلغ من الاهتمام بالتربية والتعليم في الإسلام أن المسلمين كانوا يوقفون الضياع والعقارات لصرف ريعها على أهل العلم وطلابه، وكانوا يعتبرون ذلك من الأعمال التعبدية، وهكذا أدير الأزهر الشريف لقرابة الألف سنة من أوقاف المسلمين.
وعلى الرغم من هـذا التاريخ الإسلامي المجيد في محاربة الجهل والقضاء على الأمية بنوعيها، أمية القراءة والكتابة، وأمية العقيدة، فإننا نجد أحفاد المسلمين العظام يتراجعون عن دورهم القيادي في الحياة، هـداة مهتدين، ويتوارون عن مسئولياتهم الكبيرة في حمل آخر الرسالات السماوية وأتمها وأكملها إلى البشرية كافة، ويتهاوون في ظلمات الجهل، وإهمال التعلم، حتى يصل متوسط نسبة الأمية بينهم إلى هـذا الحد المخيف المفزع.
وأمة هـذا واقعها بالنسبة لأبسط متطلبات المعرفة الإنسانية، لا يمكن لها أن تحرز تقدما في أي مجال، ناهيك عن مجال العلوم والتقنية الذي يحتاج عقولا مستنيرة، ونفوسا صابرة، وحواس مستوعبة، وذاكرة حاضرة، وتدريبا متواصلا، وعملا دءوبا.
وينقسم العالم الإسلامي المعاصر من حيث انتشار الأمية بين أبنائه التابعين إلى مجموعات ثلاث كما يلي:
(أ) دول تزيد فيها نسبة الأمية عن 80%، وتشمل كلا من: بوركينا فاسو ، ومالي ، وموريتانيا ، وأفغانستان .
(ب) دول تتراوح فيها نسبة الأمية بين 50% و80%، وتشمل كلا من: الجزائر ، الكاميرون ، مصر ، ليبيا ، المغرب ، تونس ، قطر ، السعودية ، بنجلاديش ، إيران ، باكستان ، سوريا ، واليمن الجنوبي .
(ج) دول تبلغ فيها نسبة الأمية 50% أو أقل، وتشمل كلا من: البحرين ، [ ص: 120 ] بروناي ، إندونيسيا ، الأردن ، الكويت ، لبنان ، ماليزيا ، جزر المالديف ، تركيا ، ودولة الإمارات العربية المتحدة .
ومن مؤشرات الخطر أن نسبة طلاب المدارس (بين عمر خمسة أعوام وتسعة عشر عاما) لا تتعدى 37% من مجموع تعداد السكان في العالم الإسلامي المعاصر، بينما تتخطى هـذه النسبة 75% في دول الشمال، وتصل إلى 48% في دول العالم الثالث بصفة عامة.
هذا الواقع المحزن للعالم الإسلامي المعاصر، وهو عالم تسود فيه الأمية، ويتفشى فيه الجهل، لا بد من تغييره، وبأسرع وقت ممكن قبل التفكير في عملية التقدم العلمي والتقني، فلا يمكن أن يتم تقدم علمي أو تقني في مجتمع تتفشى فيه الأمية؛ لأن عامل اليوم لا بد وأن يكون على حد أدنى من الثقافة والتدريب يمكنانه من تداول أجهزة التقنية الحديثة، فضلا عن فهمها والعمل على تطويرها.
ومن هـنا فإنه لزام على القيادات السياسية والفكرية في العالم الإسلامي المعاصر، وفي مقدمتهم حملة الدعوة الإسلامية، أن يبادروا بوضع خطة زمنية محددة - ولتكن عشر سنوات – تكثف فيها الجهود من أجل القضاء على الأمية، قبل أو مع التفكير في خطة للتقدم العلمي والتقني.
إن الاستبداد السياسي في عالمنا الإسلامي المعاصر من أبرز أسباب تخلف الأمة في كل مجال، وفي مجال التقدم العلمي والتقني بصفة خاصة، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، وإذا لم يعمل دعاة الإصلاح في الأمة على إقامة أوضاع شرعية وإيجاد تيار عام في الأمة يرفض الظلم والاستعباد، كما يرفض الوصاية على الشعوب، فلا أمل في أي إصلاح أو تقدم علمي أو تقني منشود.
وإنه لمن نافلة القول أن أعيد هـنا مرة أخرى أنه من المستحيل قيام تقدم علمي وتقني في ظل الواقع الحالي. [ ص: 121 ]
(3) إهمال دراسات العلوم والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر:
في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر أهملت الدراسات العلمية والتقنية بصفة عامة، إما بسبب كثرة ما تحتاجه من تجهيزات ومختبرات وأجهزة ومعدات، وما وصلت إليه تكلفة ذلك في هـذه الأيام من مبالغات، أو بسبب انطلاق البحث العلمي عند غير المسلمين من منطلقات مادية بحتة، تنكر أو تتجاهل كل ما وراء المادة، بينما الإيمان بالغيب يشكل لب العقيدة الإسلامية، أو للسببين معا.
وبإهمال هـذه الدراسات ندرب الخبرات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر، وبندرتها تخلفت أمتنا عن ركب التطور العلمي والتقني.
وتبلغ نسبة العلماء والتقنيين إلى مجموع تعداد السكان في الدول الإسلامية رقما لا يذكر إذا قورن بنسبتهم في دول التقدم العلمي والتقني، إذ تتراوح بين عشرين في المليون (بنجلادش ) ومائة وتسعين في المليون ( مصر ) ، بينما تتراوح عند غير المسلمين بين 4300 في المليون ( الولايات المتحدة وأوروبا الغربية ) ، و8200 في المليون (في الكتلة الشرقية المكونة من الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية والصين ) ، ويبلغ متوسط تلك النسبة في الدول النامية بصفة عامة حوالي مائة في المليون.
ومعنى ذلك أن نسبة العلماء والتقنيين في شعب مثل شعب الولايات المتحدة تصل إلى مائة ضعف ذلك في دولة إسلامية كبيرة مثل مصر، وهي من أغنى الدول الإسلامية وفرة في عدد العلماء والتقنيين.
وفي الوقت الذي تنفق فيه الدول الكبرى ما بين 2% و4% من إجمالي ناتجها القومي على عمليات توظيف البحث العلمي من أجل التنمية، فإننا نجد إنفاق الدول الإسلامية (في زمرة الدول النامية) لا يتعدى 0.3% على ضخامة الدخول القومي في الدول الكبرى وضآلتها في الدول النامية، وعلى ذلك فإن مجموع إنفاق الدول النامية لا يمثل أكثر من 1.6% من مجموع إنفاق دول العالم [ ص: 122 ] على عمليات البحث العلمي وتوظيفه في تطوير التقنية.
(4) قيام مختلف المؤسسات العلمية والتقنية الحديثة في دول العالم الإسلامي كافة على أنماط مستوردة لا تنبع من عقيدتها وتراثها، ولا من حاجات أفرادها ومجتمعاتها، مما أدلى إلى غرابة هـذه المؤسسات في بيئاتها، وغرابة خريجيها، وإلى العديد من الحواجز الاجتماعية التي حالت بين هـذه المؤسسات وبين تحديد أهداف واضحة لها، وخطط محددة لعملها، كما حالت دون قيام خريجيها بواجباتهم كاملة في مجتمعاتهم.
فعلى الرغم من بلوغ عدد الجامعات في دول العالم الإسلامي المعاصر أكثر من 224 جامعة، بالإضافة إلى 335 معهدا علميا عاليا، وحوالي 900 من مراكز البحوث، إلا أن هـذه جميعها مع هـيئات تدريسها وخريجيها لم تتمكن بعد من تحقيق نهضة علمية وتقنية حقيقية تعين على جبر الهوة الكبيرة بيننا وبين الدول المتقدمة في ذلك.
هذا وقد بلغ عدد الطلاب المسجلين في الجامعات والمعاهد العليا بدول العالم الإسلامي في سنة 1985م حوالي الثلاثة ملايين طالبا، أي بما يعادل 370 طالبا من كل مائة ألف مواطن تقريبا، بينما تبلغ هـذه النسبة حوالي ثلاثة أضعاف ذلك في الدول النامية بصفة عامة، وعشرة أضعافه في الدول المتقدمة علميا.
(5) استمرار اعتماد المسلمين على جامعات الغرب أو الشرق في تكوين طاقاتهم العلمية المتخصصة، دون محاولات جادة لتأسيس قواعد ذاتية راسخة للبحث العلمي وتطبيقاته في العالم الإسلامي، ومع ما يؤدي إليه ذلك من تقويض للقواعد المحلية التي لم تتمكن بعد من ترسيخ جذورها، فإنه يعرض شباب المسلمين إلى حملات التغريب التي نعاني منها بمرارة اليوم، وتكفي في ذلك الإشارة إلى العديد من قيادات الفكر وأصحاب الرأي في العالم الإسلامي المعاصر – خاصة المتحكمون منهم في العمليات التربوية والعلمية والإنتاجية – [ ص: 123 ] ومدى انسلاخهم عن التزاماتهم الإسلامية، كذلك تجدر الإشارة هـنا إلى أن ما تنفقه الدول الإسلامية على مبعوثيها في الخارج يكفي لإقامة أكبر الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث المتخصصة في بلادهم مما قد يعينهم على اللحاق بالركب، ويدفعهم إلى مصاف الدول المتقدمة علميا وتقنيا.
(6) انعدام التخطيط والتنسيق والتعاون بين مختلف المؤسسات العلمية والتقنية في العالم الإسلامي المعاصر، مما أدى إلى تفتيت الجهود، وتكرارها في خطوط قصيرة متوازية، في وقت ندرك فيه أن من عوامل تفوق كل من الولايات المتحدة الأمريكية واتحاد الجمهوريات السوفيتية هـو اتحاده، وتحركها كتجمع بشري هـائل، فوق مساحات أرضية شاسعة، بتخطيط واحد، وهدف محدد.
وندرك أيضا أن دولا مثل الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية قد استطاعت أن تحقق قدرا من النجاح في اللحاق بالركب بفضل الكثافة السكانية العالية التي تتحرك ضمن إطار واحد، في تنسيق وتعاون تأمين، على حين نجد العالم الإسلامي المعاصر قد تفتت، وتباعد، وتناحر، على الرغم من أصالة الوشائج بين أبنائه، وعميق صلاته، وقد أدى هـذا التناحر إلى ذبول المؤسسات العلمية والتقنية فيه، وانقسامها بانقسام الدول التي تتبعها، إلى مؤسسات تملك القاعدة البشرية القادرة على مسايرة العصر علميا وتقنيا، ولا تملك المال اللازم لذلك، وأخرى تملك ما يفيض عن حاجتها الفعلية من أموال، ولا تملك القوى البشرية القادرة على قيام نهضة علمية وتقنية حقيقية.
وتتضح أهمية التنسيق والتعاون في مجال التقنيات المتقدمة من مثل: الأبحاث النووية، والتقنيات العسكرية المتطورة، والتي تحتاج إلى رءوس أموال طائلة، ولا داعي للتكرار فيها على الإطلاق، بل من الواجب السعي إلى شيء من التكامل في كل من الطاقات البشرية والمادية، وهي على ندرتها أغلى من أن تهدر هـنا وهناك.
(7) عدم وجود الحوافز المادية والمعنوية الكافية للمشتغلين بالبحث العلمي والتقني في مختلف دول العالم الإسلامي المعاصر، مما صرف الناس عن هـذه التخصصات، وأدى إلى هـجرة كثير من العلميين لمراكزهم، واتجاههم إلى [ ص: 124 ] النشاطات المالية والإدارية؛ وذلك لأن الحياة العلمية تحتاج إلى الكثير من المجاهدة والصبر والنزاهة والموضوعية، وليس كل الناس قادرين على ذلك، فإذا لم يول الناس ما يستحقون من التكريم انصرفوا عن العلم.
ومن المؤسف حقا أن الكثير من الحوافز التي خصصت للعلماء والتقنيين في عالمنا الإسلامي المعاصر قد شابها كثير من عدم الموضوعية ونقص الحيدة بما خرج بها عن غاياتها الصحيحة.
(8) عدم توفر وسائل البحث العلمي والتقني من الأجهزة والمواد والمعدات والقوى الفنية المساندة، والخدمات المكتبية والتوثيقية المتطورة في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر، مما أدى إلى هـجرة أعداد كبيرة من العلماء والفنيين إلى خارج حدود العالم الإسلامي، وهذا في حد ذاته يمثل استنزافا لأهم طاقات المسلمين ولأعظم إمكاناتهم، وذلك لأن غياب العناصر البشرية المثقفة والمدربة تدريبا علميا وتقنيا عاليا، والقادرة على تحقيق عمليات التنمية الشاملة لمجتمعاتها المتخلفة، في عملية من النزف المستمر بالهجرة إلى الدول الغنية ابتداء، أو بالامتناع عن العودة إلى أرض الوطن بعد قضاء فترة الدراسة أو التدريب بالخارج، يشكل إهدارا للكفاءات العقلية النادرة، وللخبرات العلمية العالية، ولأصحاب المهارات الدقيقة الذين أنفقت المجتمعات النامية على المراحل الأولى من تعليمهم وتدريبهم من ميزانياتها المنضغطة، ثم فقدتهم في وقت هـي أحوج ما تكون لعطائهم.
وهذا النزف من الكفاءات البشرية يشكل خطورة كبيرة على المجتمعات - النامية بصفة عامة، وعلى المجتمعات الإسلامية منها بصفة خاصة - في الحاضر والمستقبل، وتكفي في ذلك الإشارة إلى ما نشرته جريدة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية مؤخرا، من أنه منذ بداية الستينيات وحتى منتصف السبعينيات فقدت البلدان النامية قرابة الأربعمائة ألف متخصص رحلوا إلى الدول الصناعية الكبرى ( الولايات المتحدة ، كندا ، بريطانيا ) ، وهذا الرقم يمثل تحفظا شديدا؛ لأن بعض البلدان الصناعية مثل استراليا – وهي من أكبر [ ص: 125 ] الدول المستقبلة للعقول المهاجرة – لم تدرج في تلك الإحصائية.
وتبلغ نسبة الكفاءات المهاجرة من العالم الثالث إلى مجموع العقول المهاجرة إلى الولايات المتحدة 70-80% حسب تقدير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، الذي أشار إلى أن 50-70% من خريجي كليات الطب في باكستان يهاجرون سنويا خلال العقد الأخير. ويقدر هـذا التقرير أن العقول المهاجرة من دول العالم الثالث إلى البلدان الثلاثة الكبرى المستفيدة من هـجرة العقول (الولايات المتحدة، كندا ، وبريطانيا ) في الفترة بين عامي 1971، 1972م تمثل خسارة للدول النامية تساوي اثنين وأربعين مليارا من الدولارات، كما أنها تمثل وفرا للولايات المتحدة من الإنفاق على التعليم يقدر بحوالي 1.8 مليارا من الدولارات.
ومن أخطار استمرار هـجرة الكفاءات العلمية والتقنية من دول العالم الإسلامي إلى الدول الكبرى زيادة الفجوة التي تفصلنا (في زمرة الدول المتخلفة) عن الدول الصناعية الكبرى اتساعا وعمقا، وزيادة الدول المتخلفة تخلفا، وإعاقة محاولات التنمية فيها، وزعزعة معنويات العلماء والتقنيين العاملين بها.
(9) اعتماد الجامعات والمعاهد الفنية ومراكز البحوث في كثير من دول العالم الإسلامي المعاصر على أعداد كبيرة من الأساتذة والفنيين غير المسلمين الذين يفتقرون - في أغلب الأحيان – إلى الإخلاص المطلوب، والحماس اللازم، والقدرات الضرورية، أو الذين قد يندسون أساسا لأغراض تجسسية، أو تنصيرية، أو سياسية، بهدف تقييد عملية التقدم العلمي والتقني والتحكم في مسارها، وتبديد ثروات المسلمين في مشاريع براقة ليس لها من المردود الحقيقي إلا ما هـو لهم ولدولهم فقط؛ وذلك لأن إصرار الدول الكبرى على فرض هـيمنتها على الدول النامية بصفة عامة، وعلى الدول الإسلامية منها بصفة خاصة يحول دون الأخذ بيد الدول النامية للحاق بركب التقدم العلمي والتقني. [ ص: 126 ]
(10) عملية تمييز غير المسلمين في جامعات ومعاهد ومراكز بحوث بعض دول العالم الإسلامي المعاصر، تمييزا يفقد المسلمين حماسهم، ويطفئ فيهم جذوة الشعور بالأخوة الإسلامية والمصير الواحد.
(11) تسليم المراكز القيادية في معظم جامعات العالم الإسلامي ومعاهده ومراكز بحوثه إلى أقل الناس تأهلا لحمل أمانة المسئولية والقيام بتبعاتها، وذلك انطلاقا من العصبيات الضيقة، أو التكتلات الحزبية أو المذهبية الجاهلة.
(12) اعتماد الدول الإسلامية على الاستيراد من الدول الأخرى، بدلا من التكامل الاقتصادي والصناعي والزراعي فيما بينها، مما أدى إلى خنق كثير من النشاطات الصناعية والزراعية في العالم الإسلامي، وإلى استنزاف أموال المسلمين، واستغلالهم، وفرض السيطرة عليهم من قبل الدول الموردة وتكتلاتها الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة.
وتجدر في ذلك الإشارة إلى أن حجم التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يمثل أكثر من 1% من تجارتها الدولية (!!) وأن هـناك أسعارا خاصة تفرض اليوم على واردات العالم الإسلامي بصفة عامة، كما أن ما تدفعه تلك الدول سنويا في الاستيراد يكفي لإقامة كبرى الصناعات، ولدعم أضخم المشروعات الزراعية والإنتاجية التي يمكن أن تسد حاجة المسلمين كافة، وتغنيهم عن تحكم التكتلات العالمية المستغلة فيهم، وتكفي هـنا الإشارة إلى المبالغ التي دفعت – و لا تزال تدفع – لاستيراد السيارات والشاحنات والطائرات والأعتدة الحربية.