5- الدعاء
. ليس الدعاء مجرد ألفاظ تجري على لسان الإنسان، بينما أفعاله تكذب ما يقول: ( عن أبي هـريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يارب يارب. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟ ) ) [1] وإنما الدعاء جهد واع ومسئولية.
فهو جهد واع لأنه – كما أسلفنا – ليس مجرد ألفاظ تقال، بل هـو موقف نفسي متميز، يتطلب من المرء أن ينتقل من موقفه السلبي، الذي كان عليه حين ارتكب الخطأ، إلى موقف ملؤه العزم والتصميم، على تجاوز الخطأ، والعودة إلى الحق
والدعاء مسؤولية.. لأن العبد منذ اللحظة التي يتوجه فيها إلى ربه بالدعاء، يصبح مسئولا عن موقفه، هـذا، الذي يتضمن عهدا مع الله، ألا يعود إلى ما كان عليه من سلوك، وما ارتكبه من ذنب.. فإن عاد كان كالمستهزئ بربه، وكان عهده مع الله حجة عليه
وكما يكون الدعاء من العبد رغبة في محو ذنب، أو تجاوز زلة، فكذلك قد يكون الدعاء طمعا في تحصيل نفع، أو تحقيق مطلب، وهو أمر مشروع دون ريب، إلا أن له شروطا من أهمها ألا يخالف الدعاء معلوما من الدين بالضرورة، وألا يبتغي مخالفة سنة من سنن الله في الخلق.. فمثل هـذا الدعاء غير قابل للإجابة أصلا، فليس للإنسان مثلا أن يدعو الله أن يسقط عنه [ ص: 129 ] أمرا معلوما من الدين بالضرورة، كأن يسأل الله إعفاءه من تكليف شرعي، كالصلاة أو الزكاة أو غيرها.. وليس للإنسان أن يدعو الله ليبطل سنة من السنن التي فطر عليها أمور خلقه.. وما ظنك بإنسان يلقي بنفسه من شاهق، وهو يرفع كفيه إلى السماء ضارعا: (يارب أبطل سنة الجاذبية الأرضية) هـل يستجاب له؟ وكذلك هـي حال الذين يتجاهلون سنن الله، ويحسبون أن مجرد الدعاء سيشفع لهم عن بارئهم، متناسين أو متجاهلين التوجيه الرباني الصريح في هـذه المسألة: ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) (النساء: 123) فالمسألة ليست مجرد أدعية ولا أماني، وإنما عمل أو لا عمل؛ لأن العمل هـو مناط النتائج، فإن كان العمل متوافقا وسنن الله كان مجديا.. وأما إن كان مخالفا للسنن، فإنه لا يجدي أبدا، بل قد تنجم عنه نتائج وخيمة
إذن.. أين هـو موضع الدعاء من حركة الإنسان وعمله.؟
لا ريب أن للدعاء وظيفة عظيمة الأهمية في حياتنا، ودليل ذلك تلك الآيات الكثيرة والأحاديث التي تحثنا جميعا على التضرع لله، وطلب المعونة منه.. ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) (غافر: 60) ، ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) (البقرة: 186) ، ( الدعاء مخ العبادة ) .. ولكن ليس معنى هـذا أن يتوقف كل نشاط الإنسان على الدعاء وحده.. فاللدعاء مواضع يجدي فيها بإذن الله، ومواضع لا جدوى للدعاء فيها كما سبق أن بينا.. ويكفي أن نشير إلى القاعدة العريضة التي ترتكز عليها الأعمال الناجحة، وهي أن يستكمل الإنسان الشروط، التي يعتقد أنها لازمة للعمل، الذي يزمع [ ص: 130 ] القيام به، ثم يقبل على العمل متوكلا على الله، سائلا إياه التوفيق والرشاد.
وأما الإقدام على العمل من غير توفير تلك الشروط، فإنه يعد إخلالا بالقيام بمهمة الاستخلاف بالأسباب التي ناطها الله بنا.. لأن من شروط القيام بهذه المهمة أن نأخذ أولا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي ترك دابته سائبة، وادعى أنه متوكل على الله في الحفاظ عليها: ( اعقلها وتوكل ) اعقلها.. خذ بأسباب حمايتها وحفظها.. ثم توكل على الله.
وهكذا يجب أن يكون سلوكنا في هـذه الحياة.. نأخذ بالأسباب ونهيئ الظروف، ونراعي الشروط.. ثم تبقى قلوبنا معلقة بالله، ضارعة إليه أن يسدد خطواتنا، وأن يلهمنا الرشاد، وأن يهدينا إلى السبل، التي تعيننا على إنجاز أعمالنا على أحسن ما نحب ونشتهي.. وعندئذ يجدي الدعاء بإذن الله.