أ – الفكرة ( العقيدة ) :
.. ما من شك في أن أي نشاط إنساني لا بد له أن ينطلق من ( فكرة مبدئية ) ؛ لأن الأفكار تبقى هـي المحرك الأول لأي عمل، أو جهد يزمع الإنسان القيام به.. ومما لا شك فيه كذلك أن أي نشاط لا ينطلق من فكرة صحيحة واضحة المعالم، يكون جهدا ضائعا؛ لأنه يفتقد – على هـذه الشاكلة – الضابط الذي يضبط حركته واتجاهه.
ولقد سبق أن تحدثنا عن أن الفكرة، التي يقوم عليها جهد ما، يجب أن توافق سنة من السنن التي فطر الله عليها أمور خلقه، حتى تكون هـذه الفكرة قابلة للتنفيذ العلمي، وحتى يكون الجهد مجديا [1]
.. فإن لم تكن الفكرة موافقة لسنة، كانت عديمة الجدوى في التغيير الذي ننشده، وقد يترتب عليها – فوق ذلك – نتائج بالغة الخطورة. [ ص: 149 ] والسؤال الذي يعترضنا هـنا: ما هـي الفكرة المبدئية الصحيحة الموافقة لسنة الله في الخلق، والتي لا بد منها لحصول التغيير المنشود في مجتمع من المجتمعات؟
إن مثل هـذا السؤال يحتم علينا الرجوع إلى سجلات التاريخ، لاستقراء الأحداث التي انتهت بولادة الحضارة الإنسانية، لنتبين ( الفكرة ) التي قامت عليها هـذه الحضارة، كما يتحتم علينا كذلك الإصغاء إلى آراء الباحثين الذين تناولوا هـذه المسألة:
* أما الرجوع إلى سجلات التاريخ فإنه يقدم لنا بما لا يدع مجالا للشك أن الفكرة الدينية أو (العقيدة) ، كانت دوما هـي الفكرة الأصلية، التي تولدت عنها الحضارات الإنسانية على مدار التاريخ، وأن أي استقراء منصف للتاريخ، يؤيد هـذه الحقيقة تأييدا كاملا، ويكفينا مثلا أن نستعرض من خلال سور القرآن الكريم المختلفة، تاريخ الأمم الغابرة، حتى نتبين صدق هـذا الأمر.. ولنا عودة على هـذا الموضوع فيما بعد.
* وأما آراء المؤرخين والباحثين والمفكرين الذين تناولوا قضية الحضارات الإنسانية، فإنها تجمع كذلك على أن التغيير الاجتماعي، والنهوض الحضاري، لا بد وأن يرتكز في انطلاقته على الفكرة الدينية، ولا يكاد ينكر هـذه الحقيقة أي باحث منصف، بما فيهم الباحثون الذين كانت لهم مناهجهم الخاصة في تناول القضية، فحتى هـؤلاء لم يسعهم إلا الاعتراف بتأثير الفكرة الدينية في تكوين الحضارات، ومنهم –على سبيل المثال– المؤرخ البريطاني الشهير ( أرنولد توينبي ) الذي أقام نظريته في تفسير التاريخ، ونشوء الحضارات، على أساس عامل التحدي الجغرافي، فإن هـذا المؤرخ في مواضع عديدة من دراسته، وقف يؤكد أهمية وتأثير الفكرة الدينية في استيلاد الحضارات، ومما كتبه في هـذا: [ ص: 150 ] ولا يسع كاتب هـذه الدراسة إلا أن يعترف بقناعته بهذا الرأي، الذي هـو أميل إلى مناصرة فكرة دور العقائد الدينية في مجريات التاريخ.. فإذا ما ألقينا ببصرنا على الحضارات، التي ما برحت قائمة حتى يومنا الحاضر، نجد أنه يكمن وراء كل منها نوع من العقيدة الدينية العالمية.. وعلى هـذا النحو تصبح العقيدة الدينية جزءا من نظام الاستيلاد الحضاري. [2] .
والحقيقة أن توينبي لم يكن أول ولا آخر الذين تحدثوا عن تأثير الدين في النهضة الحضارية، فقد تحدث قبله وبعده كثيرون حول هـذا الموضوع، وقد أورد ( مالك بن نبي ) رحمه الله في كتابه شروط النهضة، آراء عديدة في هـذا الشـأن، ومنها مثلا رأي المؤرخ ( هـنري بيرين ) صاحب كتاب (محمد وشارلمان) الذي قارن فيه بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية، وبين دور الديانتين في بعث هـاتين الحضارتين.
كما نقل ( مالك بن نبي ) عن المفكر ( هـرمان دي كيسرلنج ) في كتابه ( البحث التحليلي لأوروبا ) قوله: (وكـان أعظم ارتكاز حضارة أوروبا على روحها الدينية) وقوله كذلك (إن الروح المسيحية ومبدأها الأخلاقي هـما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاريخية) [3]
ويخلص مالك بن نبي –بعد استعراضه لآراء عديدة– إلى القول: (فالحضارة لا تنبعث إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في أية حضارة من الحضارات عن أصلها الديني، الذي بعثها، ولعله ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية، وفي البرهمة نواة الحضارة البرهمية.. فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجا، أو هـي – على الأقل – تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي بالمعنى العام، فكأنما قدر للإنسان [ ص: 151 ] ألا تشرق عليه شمس الحضارة، إلا حيث يمتد بصره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيدا عن حقبته، إذ حينما يكتشف حقيقة حياته كاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء، التي تهيمن عليها عبقريته، وتتفاعل معها. [4] .
والواقع أن الحضارة بمعناها الشامل، وبمعناها الإنساني، الذي يرمي إلى رفعة الإنسان والسمو به نحو الأخلاق الفاضلة، والحياة الكريمة، لا يمكن أن تتحقق بغير دفعة روحية تستمدها الحضارة من الدين.. ولكن أي دين؟ أهو الدين بالمعنى العام المغبش الذي أشار إليه فالتر شوبرت ؟ أم هـو الدين بالمعنى الغيبي الذي ألمح إليه مالك بن نبي ؟ أم هـو الدين بالمعنى الإسلامي الذي جاءت به الأديان السماوية جميعها؟
إننا بالعودة إلى الواقع، واستقراء الأحداث، وفق التوجيه الرباني ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ) (النمل: 69) نجد أن نوعا من المدنية (وليس الحضارة) قد تقوم أحيانا على أساس المبدأ العام، الذي نوه به فالتر شوبرت، وقد تقوم أحيانا وفق المعنى الغيبي، الذي تحدث عنه مالك بن نبي.. ولكن مثل هـذه المدنية مآلها إلى الانقراض، وفي القرآن الكريم شواهد كثيرة على هـذا، قال تعالى: ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين ) (يونس: 13) .
فهذه الأمم التي تحدث القرآن عن سيرتها للعبرة، كان لها نوع من المدنيات التي لم تستطع الرقي إلى أفق الحضارة السامي؛ لأنها لم تأخذ بمنهج الإيمان، ولم تجعله هـاديا لها للوصول إلى ذلك الأفق.
ونخلص من هـذا العرض الموجز، إلى أن الأساس الأبقى الذي يمكن أن تقوم عليه الحضارة الإنسانية الحقيقية، هـو العقيدة الدينية بلا جدال، [ ص: 152 ] لأن هـذا الأساس يستمد مقومات قوته وبقائه من خالق الكون والإنسان، وهو سبحانه أعلم بما يصلح أمر الكون والإنسان.
فالإيمان بالله إذن شرط أولي لبسط النعمة، أو بالمصطلح المعاصر (الحضارة) وفي هـذا يقول رب العزة سبحانه ( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ) (الأعراف: 96) وأما الحفاظ على هـذه النعمة (أو الحضارة) فمرتبط بالصلاح، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) (الأنبياء: 105) .
ولسيد قطب رحمه لله قول بليغ حول أثر الدين في تكوين الحضارة حيث قال: ( حين ينهض الإنسان بالخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه، ويصبح وهو يفجر ينابيع الرزق، ويصنع المادة الخام، ويقيم الصناعات المتنوعة، ويستخدم ما تتيحه له كل الخبرات، التي حصل عليها في تاريخه كله.. حين يصبح وهو يصنع هـذا كله ( ربانيا ) يقوم بالخلافة – على هـذا النحو 0 عبادة الله.. يومئذ يكون هـذا الإنسان كامل الحضارة، ويكون هـذا المجتمع قد بلغ قمة الحضارة ) [5] .
إذن.. فإن الفكرة الدينية عامل أساسي في التغيير الاجتماعي نحو الحضارة، ولكن بشرط أن تكون هـذه الفكرة نابعة من دين سماوي خالص، لم ينله تشويه ولا تحريف.. وما دام الأمر كذلك، فإننا لا نجد من بين الديانات السماوية دينا مرشحا اليوم للنهوض بالبشرية سوى الإسلام؛ لأن الإسلام هـو الدين الوحيد الذي حافظ – بفضل الله على صفاء عقيدة التوحيد، كيوم نزلت أول مرة من السماء إلى الأرض، والسر في هـذا أن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتاب الإسلام العظيم، فقال تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر: 9) .. وسوف يبقى الإسلام بهذا [ ص: 153 ] الكتاب الكريم، هـو المصدر الوحيد القادر –دوما وأبدا– على النهوض بالبشرية إلى آفاق الحضارة السامية.