من عود الثقاب إلى أجواز الفضاء وثمة مثال آخر يستحق منا وقفة تأمل طويلة، ونحن نتحدث عن دور الأخذ بالسنن في تقدم حياة البشرية.. ونأخذ هـذا المثال من الحدث الذي ابتدأ به تاريخ الفضاء الأمريكي - ففي شهر آب ( أغسطس ) من عام 1932م أطلقت الجمعية الأمريكية للسياحة بين الكواكب صاروخها الأول، ولم يكن طوله يزيد عن 15 سم، وقطر قاعدته 7.5 سم، وكانت منصة الإطلاق مكونة من قائمين مصنوعين من خشب الصنوبر وقد غطيتا بكمية وافرة من الصابون لتسهيل انطلاق الصاروخ إلى الأعلى (تأمل) وقد وقف [ ص: 40 ] رئيس الجمعية ( ديفيد لير ) والمهندس ( لورانس ماننغ ) يراقبان عملية الإطلاق من خلف أكياس الرمل
وتفاديا لمشكلات الإشعال فقد كلف أحد المهندسين المساعدين بإشعال الصاروخ بعود من الثقاب وبعد ثانيتين دار المحرك كما كان مقدرا له، ولكن لم يلبث أن انفجر وطار إلى حيث وقع على بعد 170 م من منصة الإطلاق إنها -دون ريب- صورة غريبة عجيبة لا يكاد جيل اليوم أن يصدق أنها حدثت قبل خمسين عاما فقط، وأنها كانت هـي البداية لعصر الفضاء، الذي لا يفتأ يطلع علينا كل يوم بكشوفات جديدة لا تكاد تصدق.
ومن المؤكد أنه لم يكن يخطر ببال أحد ممن شاهدوا تلك التجربة أنه لن يمضي سوى سنوات قليلة حتى يتمكن الإنسان من إرسال أول قمر صناعي، ليدور حول الأرض [1] ، ثم سنوات أخرى قليلة ليطأ بقدميه أرض القمر [2] .
وإذا ما قارنا الآن تلك الصورة للصاروخ الأول، مع الصورة الحالية التي عليها محطات الفضاء، فإننا نجدها أشبه بفيلم كارتوني هـزلي ضاحك فأين مثلا ذلك الصاروخ الضئيل، الذي لم يتجاوز طوله بضعة سنتيمترات، من صواريخ اليوم، التي تناطح بقاماتها السحاب؟ أضف إلى هـذا أن عملية إطلاق الصواريخ اليوم تتم تحت إشراف أعداد كبيرة من الفنيين والخبراء والعلماء، يزيد عن عشرة آلاف، موزعين في محطات المراقبة والتوجيه المختلفة والموزعة في أرجاء عديدة من الولايات المتحدة ، وهؤلاء -بطبيعة الحال- لا يقومون بالمراقبة من خلف أكياس الرمل، كما فعل أولئك الرواد الأوائل، بل يقومون بالمراقبة عبر شاشات التلفزيون والرادار والكمبيوتر ، التي تعطي [ ص: 41 ] في نفس اللحظة جميع المعلومات المتعلقة بالصاروخ وبعملية الإطلاق.. وقد بلغت الصواريخ في أقل من نصف قرن درجة راقية من التطور، فأصبحت قادرة على الوصول إلى أية بقعة من الأرض، أو من كواكب مجموعتنا الشمسية المترامية الأبعاد، بحيث يمكن مقارنة الدقة في توجيه الصواريخ، وإيصالها لأهدافها بإصابة ذبابة تقف على رأس تمثال الحرية في نيويورك ، من بندقية قناص يقف على سطـح الكرملين في موسكو
وهذه - بدون ريب - نقلة نوعية متميزة، ما كان للعلماء أن يحرزوها لولا أنهم تعمقوا أكثر فأكثر في دراسة وفهم السنن المتعلقة بالطيران.. فإن هـذا الفهم قد أمدهم بقدرات باهرة، استطاعوا بها تحويل الخيال إلى واقع، وجعل المستحيل ممكنا