ونعني باطراد السنة تتابع حصولها، أو تكرار آثارها على الوتيرة نفسها كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع التي تحول دون تحقيقها.. [ ص: 76 ] ونضرب مثلا لهذا تركيب الماء، فالماء يتركب من اندماج غازين مختلفين هـما الأكسجين والهيدروجين وفق المعادلة الكيميائية التالية:
وقد أصبح في مقدورنا اليوم أن نعيد تشكيل الماء من هـذين الغازين بطرق اصطناعية، بعد أن عرفنا الشروط التي تتحكم باندماجهما، أهم هـذه الشروط أن ندمج العنصرين بمقدارين متناسبين، وفق قاعدة النسب التي اكتشفها العالم الكيميائي ( دالتن ) والتي تقول: ( إن الاتحاد الكيميائي بين العناصر يجري طبقا لنسب معينة من هـذه العناصر، في ظروف وشروط خاصة بكل منها ) فهذه القاعدة تعد سنة مطردة تخضع لها جميع التفاعلات الكيميائية التي تتم بين مختلف العناصر.. وكلما وفرنا شروط هـذه السنة حصلنا على نتائج التفاعل المطلوب، حتى ولو أعدنا التفاعل مئات المرات.
وهذا ما نعنيه باطراد السنة، فجميع السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق قابلة للتكرار والإعادة - بإذن الله - كلما توافرت شروطها، وانتفت الموانع، التي تحول دون تحقيقها.. فالمطر يهطل بإذن الله كلما تبلدت الغيوم في السماء وتهيأت الظروف الجوية المواتية، والحجر يسقط إلى الأرض كلما ألقينا به في الفضاء، واليد تحترق كلما لامست النار، والمرض يحصل كلما صادفت الجراثيم جسما قابلا للعدوى والمرض.. وهكذا.
وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم أشارت إلى صفة الاطراد في سنن الله، منها قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (محمد: 1) ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله [ ص: 77 ] بما يعملون محيط ) (آل عمران: 120) ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل: 97) ، ( من يعمل سوءا يجز به ) ( النساء: 123) ، ( ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) (النور - 43) .
فهذه كلها سنن ربانية مطردة، لا تتخلف بإذن الله إلى يوم القيامة، وأمثالها كثير في القرآن الكريم.. وإن من يدقق النظر في أحكام الشرع المختلفة، يجد أنها تعبر عن نوع من السنن المطردة، التي لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها، فإن ترك شيء مما أمر به الشارع الحكيم يترتب عليه عاقبة وخيمة دوما، في الدنيا قبل الآخرة، وإن الإتيان بشيء قد نهى الله عنه يترتب عليه كذلك عواقب وخيمة في الدنيا قبل الآخرة، وفي هـذا غاية العدل والحكمة والتدبير.
وقد ذكر العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله بهذا الصدد ما يلي: (.. لهذا يذكر الشارع العلة والأوصاف المؤثرة، والمعاني المعتبرة، في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية، ليدلك بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت، واقتضائها لأحكامها، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها، ويوجب تخلف أثرها عنها) [1] .
ومن هـنا يتبين أن سسن الله في الخلق تقوم على الاطراد، بحيث تمضي السنة إلى غايتها المقدرة بإذن الله، كلما توافرت شروطها، ولم يكن ثمة ما يحول دون تحقيقها.. ويمكن تشبيه السنة من هـذه الوجهة بطلقات البندقية [ ص: 78 ] فهي تنطلق من الفوهة كلما ضغطنا على الزناد، وكذلك هـي سنن الله، فهي تمضي إلى غايتها كلما وفرنا شروطها.
وكما أننا نفقد السيطرة على الطلقة بمجرد خروجها من الفوهة، فكذلك نفقد السيطرة على نتائج السنة فور أن نوفر لها شروطها؛ لأنها ستمضي بعد ذلك لتحقيق أهدافها شئنا ذلك أم أبينا.
وقد يعترض بعضهم على صفة الاطراد في السنن، بحجة أن الصفات لا ترتبط بالموجودات ارتباطا لازما، بل ترتبط بها ارتباط ( عادة ) إذ يعتقد هـؤلاء مثلا أنه ليس من طبيعة النار الإحراق، ولكن الله يجعل فيها هـذه الصفة لحظة ملامستها وكذلك السكين ليس من طبيعتها القطع، وإنما يخلق الله فيها هـذه الصفة حين إمرارها على الجلد مثلا
ويرى هـؤلاء أن ارتباط الصفات بالموجودات إنما تتشكل في أذهاننا نتيجة العادة، فقد اعتدنا أن نرى النار تحرق، والسكين تقطع، فارتبطت في أذهاننا.. هـذه الصفات بهذه الموجودات، ارتباط عادة.
والحقيقة أن هـذه النظرة إلى طبيعة الأشياء قد نشأت نتيجة ملابسات تاريخية باتت معروفة في تاريخنا الإسلامي، فقد بدأ الحديث عن الجواهر والأعراض، وارتباط الأعراض بالجواهر منذ العصور الإسلامية الأولى ولا سيما في القرن الهجري الثاني، حين بدأ الجدال بين أهل الفلسفة وأهل العقيدة، ولعل أكثر من تكلموا في هـذه القضية الأشاعرة والمعتزلة الذين حاولوا نفي فكرة ( الطبع ) ، التي كان يقول بها بعض الفلاسفة القدماء، فقد اعتقد أولئك المتكلمون أن التسليم بوجود الصفات في طبع الأشياء يعطل الإرادة الإلهية، ويجعل هـذه الأشياء فاعلة بذاتها وليس بقدرة الله، وبما أنه لا يجري شيء في هـذا الوجود إلا بمشيئة الله، فقد أصروا على أن الصفات ليست مرتبطة بالموجودات ارتباطا لازما، وأن الله يجعل فيها تلك الصفات ساعة يشاء، ليدللوا من ذلك على هـيمنة المشيئة الإلهية على العالم، في كل حين [ ص: 79 ] ولا ريب في أن هـذه النظرة إلى العالم تضفي عليه صورة سحرية غريبة؛ لأنها تجعل من الجائز للنار مثلا أن تحرق، أو لا تحرق، بنفس النسبة، وفي جميع الأحوال، وكأن الأمر عبث لا يضبطه ضابط وهذا ما يؤيده الواقع المحسوس، الذي يثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك صفة الاطراد في سنن الله التي تحكم الوجود.
وقد أخطأ أولئك المتكلمون، حين ظنوا بأن الاطراد في السنن ينفي المشيئة الإلهية أو يعطلها، وقد سبق أن بينا من قبل، بأن السنن التي تحكم هـذا الوجود، ما هـي إلا قدر من قدر الله عز وجل ، فهو سبحانه الذي قدره وأراد لها أن تعمل على هـذه الصورة من الاطراد، لكي يستقر أمر الخلق، ويستطيع الإنسان تسخير ما في الكون في شئون حياته.
وملازمة الصفات للموجودات لا تعني تعطيل المشيئة الإلهية؛ لأن هـذه الصفات ما كان لها أن تكون - أصلا - لولا مشيئة الله سبحانه، أضف إلى ذلك أن الله عز وجل ، الذي جعل في النار مثلا صفة الإحراق قادر على أن يسلبها هـذه الصفة متى شاء، ودليل ذلك أنه سبحانه قال للنار: ( كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) (الأنبياء: 69) ، وهذا يعني أن صفة الإحراق كانت ملازمة للنار، قبل إلقاء إبراهيم عليه السلام فيها، وأن الله سلبها هـذه الصفة في هـذا الظرف الخاص، على وجه المعجزة لنبيه عليه السلام ، على أنه يجب ألا يغيب عن بالنا أن سلب الإرادة الإلهية للصفات، أو تعطيل سنة من السنن ليس أمرا اعتباطيا متروكا للمصادفة أو الاحتمال، بل شاءت إرادة الله عز وجل أن يكون ذلك محكوما بظروف مخصوصة معلومة، كما هـو الحال في المعجزات مثلا، مما يؤكد أن صفة الاطراد في السنن هـي الأصل، وما عداها هـو الاستثناء، وهذا ما سوف يفصل الحديث فيه بإذن الله عندما نتناول خوارق السنن. [ ص: 80 ] ونخلص من هـذا العرض إلى أن السنن التي تحكم الوجود، تعمل فيه بنوع من الاطراد الذاتي (الأوتوماتيكي) فالنار من طبيعتها أن تحرق، والكهرباء من طبيعتها أن تصعق، والسم من طبيعته أن يقتل، وعلى هـذا الأساس يجب أن نتعامل مع العالم من حولنا.. مع التذكير بأن هـذا الاطراد خاضع في الوقت ذاته لمشيئة الله كما قال تعالى: ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ) (الفرقان: 45) ، فإن مد الظل كناية عن اطراد حركة الشمس والأرض، ولو شاء الله لعطل هـذا الاطراد، وجعل الشمس والأرض ساكنتين، وفي هـذا دليل على الهيمنة الإلهية المطلقة الدائمة.. فالله عز وجل ، لم يخلق الكون ويتركه وشأنه، بل هـو قائم على أمر خلقه في كل حين، يسطر على كل ذرة من ذرات الكون، وقادر أن يفعل بخلقه ما يشاء ( إن الله يحكم ما يريد ) (المائدة: 1) ، ( إن ربك فعال لما يريد ) (هود: 107) .
وقد أصبحنا اليوم أقرب إلى فهم هـذا النظام الرباني المطرد، بعد أن أتاحت لنا العلوم الحديثة، ما يعرف بالنظم ذاتية التسيير ( الأوتوماتيكية ) إذ نستطيع مثلا أن نشغل جهاز التلفزيون بواسطة جهاز التحكم عن بعد ( ريموت كنترول ) فيظل التليفزيون يعمل من تلقاء ذاته دونما حاجة لتدخلنا المستمر من أجل حثه على العمل، وهذا لا يعني أننا فقدنا السيطرة على عمل التليفزيون، فنحن قادرون متى شئنا أن نوقفه عن العمل، أو نوجهه إلى محطة جديدة..
فإذا كنا قد سلمنا بأن الإنسان - صاحب القدرة المحدودة المقيدة - استطاع إنشاء نظم ذاتية الحركة، وتخضع في الوقت نفسه للسيطرة، فكيف لا نسلم بأن الله عز وجل خلق هـذا الكون وفق نوع من الاطراد الذاتي الخاضع للسيطرة الربانية؟ [ ص: 81 ]