الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق

الدكتور / أحمد محمد كنعان

3- علم الغيب

* الغيب: خلاف الشهادة.

* وكل ما غاب عن إدراكنا فهو غيب بالنسبة لنا.

* والغيب غيبان:

أ – ( غيب مطلق ) ويشمل كل المغيبات المتعلقة بالعالم الآخر، وهذا النوع من الغيب يمكن أن نعلمه علما يقينيا عن طريق واحد لا ثاني له، وهو طريق الوحي الثابت الصحيح..

ب – ( غيب نسبي ) ويشمل المغيبات في عالم الشهادة التي تتعلق بالماضي أو بالحاضر، وهي مغيبة عنا إما بسبب وجود مانع يحول دون علمنا بها، أو لأن الوسائل التي بين أيدينا لا تسعفنا في الكشف عنها، وهذا النوع من الغيب يمكن أن نتوصل لمعرفته بصورة يقينية قاطعة، بوسائلنا الخاصة.

ومن المعروف أن الإنسان تطلع منذ وقت مبكر من تاريخه إلى عالم الغيب، وتثبت سجلات التاريخ أن الإنسان قام بمحاولات كثيرة جدا لكي يستشف آفاق المستقبل، وتشير الآثار القديمة، وبعض الأساطير والحكايات إلى تلك المحاولات، التي لا نشك أبدا أنها باءت بالفشل لأنها اعتمدت على الظن أو الخيال، ولم تلتفت إلى دور العلم في هـذه المسألة.

ولقد سبق الحديث عن أن العلم يعني المعرفة اليقينية بالسنن الربانية، التي تحكم ظاهرة من الظواهر الكونية، وأن السنن ذاتها تقوم على أساس أولي من ارتباط العلة بالمعلول، أو ارتباط النتيجة بالسبب ارتباطا لازما، وهذا يعني أن اجتماع أسباب معينة يؤدي إلى نتيجة معينة [ ص: 119 ] بإذن الله.. وانطلاقا من هـذه الحقيقة، يمكن أن يكتسب الإنسان قدرة ما على التنبؤ بأمور مغيبة عنه، فعندما تتوافر لديه مجموعة من القرائن أو المقومات أو الأسباب، فإنه يمكن أن يتنبأ بالمغيبات، التي ترتبط بها من النتائج، كأن يتنبأ مثلا بهطول المطر عندما تتراكم الغيوم في السماء، وتتهيأ الظروف الجوية المواتية، أو يتنبأ بحدوث زلزال عندما تشير أجهزة الرصد الجيولوجية إلى حدوث تحركات في طبقات الأرض، أو يتنبأ بإصابة إنسان ما بمرض معين، بعد تعرضه للعدوى من مصدر معروف.. وهكذا.

إلا أن تنبؤ الإنسان على هـذه الصورة يبقى ناقصا لسببين اثنين:

أ – لأن هـذا التنبؤ قابل للخطأ والصواب، بمقدار ما يكون الإنسان قد عرف من شروط وظروف الظاهرة التي يحاول التنبؤ بما وراءها.

ب – لأن هـذا التنبؤ ليس أوليا، أي أن الإنسان لا يعلم الغيب علما أوليا بلا مقدمات، بل هـو يتنبأ اعتمادا على أساس ارتباط النتيجة بالسبب، ولهذا تبقى نبوءته ناقصة.. فهي ليست كعلم الله بالغيب؛ لأن علم الله عز وجل هـو علم أولي تام لا يدانيه الخطأ أبدا، ولا يقف دونه مانع، فهو علم غير مرتبط بزمان ولا مكان ولا أسباب، فالله سبحانه يعلم ما كان، وما هـو كائن، وما سوف يكون ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هـو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) (الأنعام: 59 ) ، ولا عجب، فالله عز وجل هـو الذي خلق الخلائق كلها، وقدر الأسباب والنتائج، وأحاط بكل شيء علما ( عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) (سبأ: 3) . [ ص: 120 ] ويرجع اهتمامنا بالبحث في العلاقة ما بين سنن الله في الخلق وبين معرفة الغيب، إلى أن هـذه العلاقة يمكن أن تمدنا بقدرات باهرة لم نكن نملكها من قبل، وتفتح أمامنا آفاقا لم تكن مفتوحة.

ومما لا ريب فيه أن الإنسان عندما بدأ الاهتمام بالبحث العلمي، واكتشف أن مخلوقات الله جميعا تخضع لسنن ثابتة مطردة لا تتخلف، قد اكتسب من خلال ذلك رؤية جديدة للعالم، الذي يعيش فيه، فراح على ضوء رؤيتة الجديدة هـذه، يتعامل مع الكون تعاملا أكثر إيجابية وفعالية، إذ أمدته معرفته بسنن الله بقدرات إضافية، أعانت على التنبؤ بوجود ظواهر ومخلوقات، لم يكن يعلم عن وجودها شيئا من قبل.. ولعل خير مثال على هـذا ما حدث مع العالم الروسي الشهير (مندلييف) [1] الذي وضع الجدول الدوري للعناصر الكيميائية عام 1869م.. فقد لاحظ هـذا العالم أن ذرات العناصر التي كانت معروفة في زمانه تتركب وفق نظام، أو سنة معينة، اذ يتعقد تركيبها بالتدريج واحدا بعد الآخر، فقد وجد مثلا أن أبسط العناصر هـو ( الهيدروجين ) وتتركب ذرته من نواة فيها بروتون واحد ونترون واحد، ويدور حولها بروتونان يدور حولهما الكترونان.. وهكذا يزداد تركيب العناصر تعقيدا واحدا بعد الآخر إلى نهاية الجدول، وفق سنة مطردة تدل على النظام البديع الذي ركبت الذرات على أساسه.

وقد درس مندلييف العناصر الكيميائية التي كانت معروفة في زمانه، ثم رتبها في جدول بحسب تركيبها الذري، من الأبسط إلى الأكثر تعقيدا، فلاحظ خانات في الجدول ظلت فارغة، ولما كان مندلييف واثقا من وجود قانون صارم ( أو سنة ) يحكم تركيب هـذه [ ص: 121 ] العناصر وفق نظام مطرد، فقد استدل من هـذه الخانات الفارغة على وجود عناصر في الطبيعة، لم تكتشف بعد، وبعد دراسة عميقة، وبحث شاق استطاع مندلييف ، أن يقدر بعض صفات العناصر المغيبة، وقام بوضع تقرير مفصل عنها ذكر فيه خصائصها، التي تنبأ بها بناء على موقعها من الجدول.

وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى جاءت الاكتشافات، فأكدت صدق ما تنبأ به مندلييف، ففي عام 1875م اكتشف عالم فرنسي أحد العناصر التي تنبأ بوجودها في الطبيعة، وأطلق عليه اسم ( غاليوم ) نسبة إلى بلاد الغال حيث اكتشف هـذا العنصر، وفي عام 1879م اكتشف عالم سويدي عنصرا آخر من تلك العناصر، أطلق عليه اسم ( سكانديوم ) وبعدها اكتشف عالم ألماني العنصر الثالث، عام 1887م وأطلق عليه اسم ( جرمانيوم ) نسبة إلى ألمانيا.. وكانت خصائص هـذه العناصر المكتشفة مطابقة للخصائص التي تنبأ بها مندلييف إلى درجة تبعث على الدهشة.

وبمثل هـذا الفهم لطبيعة السنن التي فطر الله عليها أمور الخلق، يمكن أن يكتسب الإنسان القدرة على التنبؤ ببعض ما سوف يجيئ به في المستقبل، ومن هـذا المنطلق راح علماء الاستشراف المستقبلي يحدثوننا في ثقة تامة عن الغد وكأنهم يرونه عيانا.. ومن ذلك مثلا ( أن علماء الفلك يتنبأون بأن الليل والنهار لن يظلا على ما هـما عليه اليوم بعد مرور خمسة آلاف مليون سنة مثلا، فهم يتنبأون أن اليوم بعد هـذا العمر الطويل لن يكون 24 ساعة بحساباتنا الحالية، بل سيصير 36 ساعة، وهذه الحسابات لا تأتي هـكذا اعتباطا؛ لأن العوامل الكثيرة التي تتسلط على أرضنا تؤدي إلى إبطاء دورانها حول نفسها، وإبطاء الحركة ينعكس على إبطاء الزمن، بحيث يؤدي ذلك إلى جعل يومنا الحاضر أقصر من غدنا بحوالي 000.000.25/ثانية أي 25 جزءا من ألف جزء من الثانية.. [ ص: 122 ] ويتنبأ العلماء كذلك بحصول أطول كسوف للشمس ( سيستمر لمدة سبع دقائق و28 ثانية ) وذلك يوم 16 تموز (يوليو) عام 2186م أي بعد حوالي 196 سنة ( أطال الله في أعماركم ) [2] وكلنا نذكر دون ريب المذنب الشهير (هالي) الذي ظهر في سمائنا يوم 9 شباط ( فبراير ) من عام 1986م في تمام الساعة التاسعة والنصف، والذي استعد العلماء لظهوره ورصده، قبل هـذا التاريخ بسنوات عديدة؛ لأنهم كانوا يعلمون موعد تشريفه.

وهناك إلى جانب ما ذكرناه تنبؤات عديدة لا تقل غرابة وإثارة.. نذكر منها ما يلي:

يقول العالم ( ريتشارد سيلزر ) [3]

: ( إن أهم التطورات التي ستفضي إليها البحوث في العشرين سنة المقبلة، ستكون بلا شك العقاقير المضادة للفيروسات، واللقاحات التي ستؤدي إلى انقراض الأمراض السارية من على وجه الأرض.. أما علم الهندسة الوراثية، فسوف يساعد في القضاء على العاهات الوراثية، التي ضربت المجتمعات منذ زمن بعيد.. يقيني أن التحكم بالتقنيات المختصة بمعاملة الموروثات البشرية ستخلف سلالات بشرية متفوقة، وأن هـذه الحقيقة قد بدأت بشائرها اليوم. [4]

وعلى المستوى الاجتماعي والنفسي والسياسي هـناك تنبؤات أكثر غرابة وأبعد شأوا، يقول الأستاذ ( تيموتي ليري ) [5]

.. سوف نشهد في العقود المقبلة اضمحلال السياسات الحزبية، فهذه من مخلفات العهود

[ ص: 123 ] الإقطاعية، أو من بقايا العصر الصناعي، في أحسن الأحوال، فمن الجنون أن يتم حكم أمريكا مثلا – وهي ذلك المجتمع التكنولوجي المعقد والتعددي – على هـذه الصورة المتخلفة.. سوف نصبح كلنا مسئولين ومشاركين في الحكومة، وسنقوم بالتصويت الإلكتروني، ومن منازلنا، ولن نحتاج إلى مرشحين حزبيين مخاتلين، يلعبون على أوتار معتقداتنا وعواطفنا

ويقول أيضا: ( في غضون العشرين سنة المقبلة ستطرح في الأسواق مئات الأصناف المتطورة من (النواقل العصبية) التي تسمح بتنشيط الدماغ، وتحسين الأداء الفكري، وتعديل المشاعر والأحاسيس، بالكيفية التي تريد، وستظهر كذلك (أجهزة الراديوات الدماغية) القادرة على التقاط الموجات الكهربائية الصادرة عن الدماغ، وتعديل كيفيتها، بحيث يمكن تسريع عملية التفكير أو إبطائها، وهذه الأجهزة سوف تعيننا على التفكير بوضوح، وعلى التواصل فيما بيننا بصورة أفضل [6]

، وهكذا أخذت تظهر يوما بعد يوم تنبؤات جديدة لعلماء الاستشراف المستقبلي، لتضيء لنا صورة المستقبل شيئا فشيئا، حتى كأننا نراه عيانا..، وهي ليست مجرد تنبؤات للتصدير الإعلامي، بقصد التشويق والإثارة، بل هـي في الحقيقة تشكل الهيكل الأساسي للبرامج، التي تعتمد عليها شركات الإنتاج والتصنيع، التي أصبحت بسبب تسارع إيقاع العصر، تهتم بالمستقبل، ربما أكثر مما تهتم بالحاضر وهذه التنبؤات ليست تنبؤات منجمين يضربون بالرمل، ولا شطحات شعراء يهيمون وراء الخيال.. بل هـي تنبؤات تقوم على أسس راسخة من المعرفة الصحيحة بطبيعة السنن، التي فطر الله عليها أمور الخلق.. فهذه المعرفة هـي التي أمدت العلماء [ ص: 124 ] بقدرات عظيمة، استطاعوا بها استشراف آفاق المستقبل، واستنكاه ما سوف يقع فيه من أحداث، وما سوف يطرأ عليه من تحولات بالغة الغرابة.

ومما لا ريب فيه أن مثل هـذه التنبؤات، ستعطي العلماء بعدا جديدا للحركة ومجالا أرحب للفكر النظري والتطبيقي، مما سيعينهم بإذن الله على وضع البرامج المستقبلية، الكفيلة بمواجهة التغيرات القادمة، بصورة أكثر فعالية، وأقدر على الاستفادة من عامل الوقت، وتجنبهم الأخطار القادمة؛ لأنهم يكونون قد أخذوا حذرهم تجاهها، بل قد يستطيعون تسخير هـذه الأخطار لصالحنا نحن البشر، بدل أن نكتوي بنارها

وكما قالوا ( من عرف لغة قوم أمن شرهم ) وكذلك هـي معرفتنا بالمستقبل، فهي تجعلنا نأمن شره، وتقلل من أخطائنا، وتجعلنا نتعامل معه تعامل الصديق، الذي يعرف صديقه جيدا.. ولا سبيل إلى هـذه المعرفة بالمستقبل غير السير في الأرض، واستكشاف السنن، التي فطر الله عليها أمور خلقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية