الطريقة الدرقاوية في غرناطة
احتفظ عدد من أهل الأندلس بدينهم الإسلامي سرا، وبعد سنة 1960م، تجرأ بعضهم على إعلانه في أسبانيا نفسها، كالمحامي خليل بن أمية ، الذي كان يعيش في مجريط ، وغيره كثير ممن ليست له شهرته. ومنهم من هـاجر إلى خارج الأندلس كالغرناطي الذي التقيت به في كوبنهاجن ( الدنمارك ) في 5 / 11/1973م. وقد ولد ونشأ في برشلونة ، وأسلم سنة 1969م في باكستان ، وتزوج بمسلمة سويدية، ثم هـاجر إلى الدنمارك حيث ساهم في تأسيس جمعية إسلامية، ثم إلى لوس أنجلوس ( كاليفورنيا ) بالولايات المتحدة الأمريكية ، حيث يقيم اليوم 1990م. ولما سألته حينذاك عن سبب إسلامه، أجاب: (كنت طفلا صغيرا عند احتضار جدتي، فجذبتني إليها، وهمست في أذني قائلة: إن الدين النصراني ليس ديننا، وليس هـو الدين الحق، عندما تكبر حاول أن تعرف دينك. فلما كبرت درست تاريخ أسبانيا، وفهمت قصد جدتي، فتعلمت الدين الإسلامي، واقتنعت به، وأعلنت إسلامي في باكستان، حيث أمضيت سنتين لأتقن تعليمي) . وهكذا أسلم عدد كبير من الأندلسيين، منهم من مكث بأسبانيا ومنهم من هـاجر، كل واحد أسلم لنفسه دون تفكير في تنظيم جماعة إسلامية.
وكانت مدينة مكناس بالمغرب منبع التنظيم الأندلسي الأول. فقد فتح هـناك قبل ربع قرن الشيخ ابن الحبيب ، شيخ الطريقة الدرقاوية ، زاويته لعدد من الأوروبيين الذين انجذبوا للإسلام. وفي سنة 1975م نفس السنة التي مات فيها فرانكو ، توجه إلى بريطانيا ثلاثة من الشباب الأندلسي من بلدة بورتيانو ( مقاطعة قلعة رباح ) بمنطقة قشتالة مانشا ، واعتنقوا الإسلام وأصبحوا من أتباعه. فأمرهم الشيخ عبد القادر بالتوجه لقرطبة وتأسيس جالية إسلامية بها [1] [ ص: 88 ] وفي سنة 1977م توجه أعضاء الجماعة إلى قرطبة ، واستأجروا بيتا قديما سكنوا فيه جميعا مع أزواجهم وأبنائهم، وعملوا في مهن متواضعة كباعة متجولين لإعالة أنفسهم، وحرصوا - رجالا ونساء - في تلك الحقبة على ارتداء الزي الإسلامي. وانضم إليهم عدد من الأندلسيين، وغيرهم من الأسبان، زاد على الأربعين. وارتكزت فلسفة الجماعة على كونهم يعيشون في مجتمع كافر، يجب الخروج عنه، فكان على كل من يعتنق الإسلام، أن يترك أهله وعمله، لينضم إلى الجماعة.
وكان مطران قرطبة حينذاك، مونسينيور انفانتي فلوريدو ، يدعي التسامح الديني، ويشجع الحوار الإسلامي المسيحي، ويستدعي علماء الإسلام للصلاة في مسجد قرطبة الأعظم ، بعد مؤتمرات سنوية للحوار كان ينظمها. فاستأذنته الجماعة في إقامة صلاة عيد الأضحى سنة 1398هـ - 1978م، بمسجد قرطبة الأعظم، فأذن لهم. وكان ذلك أول نشاط علني، عرفت به الجماعة، التي انضم إليها في صلاة العيد عدد من العمال المغاربة والباكستانيين (من بنياروجا ، وقزلون ، ولاكرولينا ) وبعض الطلبة العرب.
وفي سنة 1979م قررت الجماعة الانتقال إلى إشبيلية ، آملة أن تجد مجالا أفضل للدعوة. فأقامت لأول مرة الصلاة في حديقة جامع المنصور ، وصعد أحد أفرادها إلى أعلى مئذنة المسجد ( لاخيرالدا ) وأذن. وحاولت الجماعة الحصول من بلدية إشبيلية على المسجد الذي بناه المغرب في معرض دولي قبل الحرب العالمية الثانية ، فرفض طلبهم. وفي 4/4/1980م بمناسبة مسيرة النصارى في ( الأسبوع المقدس ) ، قام أفراد الجماعة بتوزيع مناشير على المتفرجين وهم يصيحون: (أوقفوا محاكم التفتيش ) . تقول المناشير: (هذه الأثواب هـي أثواب محاكم التفتيش. إنكم تحتفلون بالإعدامات الجماعية، وتقدمون الاحترام للمجرمين المقنعين. إن الأندلس الإسلامية كانت أندلسا حرة. ثم جاء القتلة أصحاب القبعات الطويلة (قضاة التفتيش) . هـذه المسيرة هـي ذكرى لمحاكم التفتيش، وحفلاتها الإجرامية، التي تمثل الإرهاب والقتل الجماعي) . فتدخلت الشرطة، وقبضت على أحد المسلمين الأندلسيين، ثم أطلقت سراحه بعد بضعة أيام. [ ص: 89 ]
وبعد هـذه الحادثة، وقع تحول جديد في الجماعة، إذ قررت الانتقال إلى مقاطعة ولبة ، حيث حصلت على مزرعة بين ولبة والرصينة ، حاولت تأسيس مجتمع إسلامي عليها، بدون نجاح.
ثم انتقلت الجماعة إلى غرناطة ، بعد أن أعلنت أن اسمها (جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا) ، كما أسمت نفسها في بعض مناشيرها (جماعة المسلمين الأسبان) . وفي 22 / 9/1967م تحت اسم (الجمعية الدينية لنشر الإسلام في أسبانيا) ، استأجرت الجماعة عمارة في شارع سرابيا ، وأقامت فيها مسجدها ومكاتبها ومشاريعها الاقتصادية. وقرر زعماؤها أن يرتدي رجالها الزي الأوروبي عوضا عن الإسلام لتسهيل قبولهم من طرف المجتمع الغرناطي.
وقامت الجماعة بأول نشاط لها علني في غرناطة، عندما أذن لها فرانسسكو سانتشس رولدان ، القيم على قصر الحمراء ، بإقامة صلاة عيد فطر سنة 1400هـ-13 /8/1980م في حدائقه. فحضر الصلاة حوالي مائتي شخص، رجالا ونساء وأطفالا، من بينهم بعض الطلبة العرب والعمال الباكستانيين. وبعد صلاة العشاء جماعة، قدم العشاء للجميع في جو ديني واجتماعي جميل، كان له أحسن الأثر على المجتمع الغرناطي، وساعد على التعريف بالجماعة وانضمام أعداد جديدة من العائدين إلى الإسلام إليها.
وفي عيد الأضحى الذي تلاه طلبت الجماعة من انفانتي فلوريدو - مطران قرطبة - الإذن لها بإقامة صلاة العيد في المسجد الأعظم ، فرفض المطران هـذه المرة الطلب خطيا، مدعيا أن ذلك يؤدي (إلى تخوفات وانشقاقات وحتى إلى الفضيحة) ، وصحبت ذلك الرفض حملة ضد المسلمين الأسبان في الصحافة الأسبانية. ورد أحد ممثلي الجماعة على هـذه الحملة قائلا [2] : (ليس الإسلام ملكا للعرب. فاعتناق الإسلام لا يعني أن الإنسان أصبح عربيا. نحن مثلا [ ص: 90 ] مسلمون أسبان، كما أن هـناك مسلمون روسيون وفلبينيون.. إلخ.. ومن أجل ذلك ليست لنا علاقة مع البلاد الغنية بالبترول، إلا علاقة المسلم مع أخيه المسلم، ليس أكثر) . وكان مطران قرطبة قد أذن سنة 1979م للمشاركين الأجانب في مؤتمر حول الحضارة الإسلامية بالصلاة في المسجد.
وبعد رفض المطران، طلبت الجماعة المساعدة من مجلس قرطبة البلدي، فسلم خوليو أنغيتا عمدة قرطبة - (رئيس حزب اليسار المتحد حاليا) - للجماعة المسبح البلدي لإقامة صلاة العيد. وهكذا أقيمت حفلة إسلامية كبيرة في المسبح حضرها أعضاء مجلس قرطبة البلدي، بما فيهم أنطونيو ثوريتا ، نائب العمدة، نكاية في المطران والكنسية المتعصبة، وتعاطفا مع المسلمين. فألقى أمير الجماعة حينذاك خطبة عصماء قال في آخرها: (أصبح مجتمع الكفر في حالة إفلاس: ثقافة منحلة، وفشل ذريع في الميدان السياسي، وأزمة اقصادية متواصلة.. أقول لجميع الذين يبحثون بصدق عن سبيل، يفضي بهم إلى معرفة ذواتهم، ويتيح لهم التعاون مع الآخرين بثقة.. الإسلام هـو الأمل المضيء، أدعوكم لاكتشافه، أدعوكم لإثبات الحقيقة الإلهية الواحدة.. أبشركم بإذن الله ستعود الأندلس إلى الإسلام) [3]
ووقعت العبارة الأخيرة موقع الصاعقة على أوساط اليمين المتعصبة، بما فيهم كثير من المستشرقين الأسبان. فقاموا بحملة صحافية ضد الجماعة دامت شهورا [4]
وفي غرناطة ، صلت الجماعة صلاة العيد، بإذن من مجلس غرناطة البلدي، في مسجد المدرسة الشرعية القديمة، المسجد الوحيد المتبقى في المدينة، وقد حول إلى متحف بلدي [5] [ ص: 91 ] وفور هـذه الأحداث، أخذت أعداد أفراد الجماعة تتضاعف، فابتدأت الجمعية ترسل وفودا إلى البلاد العربية، منها إلى دول الخليج في غشت عام 1980م، والمغرب [6] في ديسمبر عام 1980م. وشرعت الجمعية في إقامة المشاريع الإسلامية: من أهمها مسجد في حي البيازين ، حصلت الجمعية على مساندة المجلس البلدي لبنائه، إذ كتب لها أنطونيو خارا أندرو -عمدة غرناطة - رسالة بتاريخ 7 / 11/1980م قال فيها: (أيها الأصدقاء. في هـذا التاريخ، استقبلت في المجلس البلدي السيد عمر عبد الحق كوكا دومينغز ، والسيد عبد الكريم كراسكو ، اللذين فسرا لي باختصار فكرة جاليتهما في بناء مسجد في حي البيازين من هـذه العاصمة، وأريد أن أوضح في هـذه الرسالة مساندة المجلس البلدي، الذي أتشرف برئاسته، لهذا المشروع، ومساندتي الشخصية بالطبع، آملين أن نفرح بإنجاز هـذا المشروع) .
وسرعان ما اشترت الجمعية أرضا بحي البيازين مساحتها 2.140 مترا مربعا لبناء المسجد. لكن المشروع لم ينجز. كما اشترت الجمعية بيتا كبيرا في حي البيازين بشارع سان غريغوريو ، وحولته إلى زواية، ومدرسة ومركز إسلامي. وحصلت الجمعية على أرض حولتها إلى مقبرة للمسلمين في غرناطة.
وابتدأت الجمعية بإنجاز مشاريعها الاقتصادية، معظمها في المركز المؤجر في شارع سرابيا بغرناطة، منها مشروع (نور الأندلس) لنشر الكتب، وتوزيعها، ولطبع الأفلام والأشرطة عن الإسلام، مع التركيز على القرآن الكريم، ومشروع تأسيس مدرسة إسلامية للكبار والصغار، ومستوصف للطب الطبيعي، والصحة العقلية، و (دكان الحكيم) لتهيئ الأغذية الطبيعية والأعشاب، كما فتحت الجمعية مخبزة إسلامية وملحمة. وباختصار حاولت الجمعية إنشاء المؤسسات الثقافية والاقتصادية التي يحتاجها مجتمع متكامل مستقل بنفسه.
وتكاثر أعضاء الجمعية إلى عدة مئات، وأخذ الطابع الإسلامي يظهر بوضوح في غرناطة، خاصة في حي البيازين التاريخي منها. ونظمت الجمعية مؤتمرين [ ص: 92 ] مهمين في الفقه المالكي ، حضرهما نخبة من علماء المسلمين. عقد المؤتمر الأول سنة 1982م في زاوية الجامعة بالبيازين، والثاني في 7-11 / 11/1983م في قاعة (مانويل دي فالا) التي سهلتها بلدية غرناطة لمنظمي المؤتمر. وقد مولت هـذا المؤتمر دولة الإمارات العربية المتحدة . وفي 5/1984م، أرسلت رئاسة محاكم أبو ظبي الشرعية، على حسابها معلمين موريتانيين لتعليم الجماعة المبادئ الإسلامية.
ونشطت الجماعة في مجال النشر، فنشرت كتبا باللغة الأسبانية، كما أصدرت الجماعة مجلة شهرية اسمها (البلاد الإسلامية) .
يعود سبب انتشار هـذه الجماعة، في أول أمرها، إلى تضامن أعضائها حول منهج واحد، وكذلك لاستعمالها الشعارات الأندلسية، مما جعل أعدادا كبيرة من أهل الأندلس ينضمون إليها. لكن ما كادت تشتهر هـذه الجماعة حتى أخذت تتقهقر لأسباب متعددة، منها طريقة تنظيمها المبنية أساسا على المركزية المطلقة حول الشيخ الأكبر ( الشيخ عبد القادر الصوفي ) ، وأمير الجماعة ( الدكتور منصور عبد السلام اسكوديرو ، ثم محمد دل بوشو الأندلسي ) . ومنها الطريقة الخشنة والعنيفة في تعامل الجماعة مع الغير. ومنها مطالبة الجماعة المنضمين إليها بالانسحاب من المجتمع الأندلسي، الذي تعده كافرا. ومنها اتهام الجماعة لكل ما سواها من المسلمين بالضلال، وحتى الكفر. ومنها شدة الشيخ عبد القادر المتناهية في تعامله مع أتباعه، إذ كان لا يتورع في طرد كل من يتردد في طاعة أوامره، مما يجعله يطرد بانتظام أعضاء الجمعية، بما فيهم كثير من مؤسسيها، وكأن يأمر الباقين من أتباعه بعدم التعامل مع المطرودين، أو التحدث إليهم، فأضعفت هـذه العقوبة القاسية الجماعة.
ثم أدت العلاقات مع دول الخليج إلى تغير كبير في الجمعية. أولا: عد الاهتمام بالأندلس فقط، قومية يجب الابتعاد عنها، فغيرت الجمعية اسمها من (جمعية عودة الإسلام إلى أسبانيا) سنة 1981م، إلى (الجمعية الإسلامية في أسبانيا) سنة 1982م. ثانيا: عد التصوف خروجا عن الإسلام، فأعلن الشيخ عبد القادر تركه للتصوف، وخروجه عن الطريقة الدرقاوية ، واعتناقه للفكر السلفي ، وأخضع اتباعه لذلك، مما أدى إلى بلبلة كبيرة في صفوفهم، [ ص: 93 ] وطرد عدد جديد منهم، فخرج عن الجماعة معظم أعضائها، منهم من تركوا أسبانيا ، ومنهم من كونوا جمعيات إسلامية أخرى، ومنهم من بقي مسلما لنفسه، ومنهم عدد صغير ارتد عن الإسلام.
ودخلت الجمعية في طور جديد بعد أن لم يبق فيها في غرناطة سوى حوالي خمسين عضوا، وغيرت الجمعية مرة أخرى اسمها، وأصبحت تسمى ( المرابطون ) ، كما غيرت اسم مجلتها من (البلاد الإسلامية) ، إلى (المرابطون) . وارتبطت الجماعة بشكل أوثق بالمراكز التابعة للشيخ عبد القادر المرابط في بريطانيا ، والدنمارك والولايات المتحدة الأمريكية ، وغيرها من البلاد. أما في أسبانيا فأصبحت زاوية البيازين بغرناطة مركزا للجماعات التابعة للمرابطين في أنحاء أسبانيا: إشبيلية ( الأندلس ) ، وبالمة ميورقة ( الجزر الشرقية ) ، وبلباو ( أوسكادي ) . كما أخذت الجماعة تعود إلى تنظيمها الصوفي بإحياء حفلات الذكر عامة، كما فعلت في إشبيلية في شهر يوليو سنة 1990م. وأنشأت الجماعة مؤسسات اقتصادية مثل شركة (السابقة) بغرناطة.
وهكذا فشلت هـذه المحاولة الجريئة في نشر الإسلام في الأندلس رغم البداية المشجعة، ويعود هـذا الفشل إلى أسباب عدة، منها: أخطاء أساسية في تنظيم الجماعة، المعتمد على المركزية ، والتأطير ، والطاعة المطلقة، عوضا عن الشورى ؛ وضعف في التواضع الإسلامي بين زعمائها؛ وانفصام الحركة عن المجال الأندلسي الموجودة فيه، بعد تبنيها للتاريخ الأندلسي، واستجابتها لشعور الأمة الأندلسية المعاصرة؛ والتذبذب بين المشارب الإسلامية نتيجة الضغوط الخارجية؛ وعدم نشر حساباتها مما أضاع ثقة من كانوا يساندونها. لكن ستبقى هـذه الجماعة، بدون شك، عنصرا مهما في التركيبة الإسلامية الأندلسية.
وجدير بالذكر أن موقف (الجمعية الإسلامية في أسبانيا) ، و (المركز الإسلامي في أسبانيا) ، من هـذه الحركة كان سلبيا؛ لأنهما لم تكونا تريان بعين الرضى قيام حركة إسلامية في الأندلس خارجة عن إطارهما. وظل موقف الجمعيتين هـذا سائدا بالنسبة لكل الحركات الإسلامية المحلية، وهو سبب النفور، القائم بين المسلمين المحليين، والوافدين الشرقيين في أسبانيا. [ ص: 94 ]