الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم (جذورها ومسارها )

الدكتور / علي المنتصر الكتاني

تكوين القومية الأندلسية في القرنين 19 و 20

قضى طرد سنة 1609م للنخبة المورسكية، على تنظيمها الذي حافظ على الإسلام في الأندلس لمدة مائة وعشرين سنة بعد سقوط غرناطة ، فاندثر ظاهرا، وبقي حيا في القلوب، التي لم تنجح الكنيسة والدولة في تحويلها إلى ما أرادته، كاثوليكية الديانة، أسبانية الهوية. بل تكونت هـوية جديدة في المجتمع الأندلسي، وهي القومية الأندلسية المعاصرة ، ذات الجذور الإسلامية الواضحة. أما خرافة تبديل سكان الأندلس بآخرين من الشمال بعد الطرد، فقد بينت البراهين التاريخية، والواقع المشاهد، أن لا أساس لها من الصحة.

فهندسة البناء والحدائق وتخطيط المدن وأسوارها، والقرى والقلاع الشاهقة، والمساجد المحولة إلى كنائس، والكنائس المبنية على شكل مساجد، والقصور القديمة والجديدة، كلها تشهد بتواصل الحضارة الأندلسية المعمارية.

وأهم تأثير باق، هـو في الإنسان الأندلسي الذي لم تتغير سماته وأوصافه ودمه وموقفه من الإسلام بالمحبة، ومن الكاثوليكية التي أجبر عليها بالكراهية. فمنذ سنة 1609م ظلت الأديرة والكنائس، الهدف الأول لثورة الشعب عند الفتن. بل حتى التراث الصوفي الأندلسي المتظاهر بالنصرانية ، بعد سقوط غرناطة، هـو تراث ذو منزع إسلامي [1] كما بقي الإسلام حاضرا في أبسط عادات الأهالي وتصرفاتهم، ويلاحظ ذلك اليوم في القرى والمدن الأندلسية في شعاراتها، والكتيبات التي تنشرها، خاصة في البشرات ، وجبال بني طوميز ، حيث طالت مقاومة المسلمين.

وأجبر الأندلسيون على ترك لغتهم العربية، فانقرضت في القرن الثامن عشر بعد مقاومة طويلة، لكن ظل تأثيرها على اللغة القشتالية التي أجبروا عليها، مما [ ص: 71 ] أدى إلى تكوين لهجة أندلسية خاصة، ورثت عن العربية مفردات جمة، ومخارج الحروف، وتركيب الجمل، لدرجة لخصها أحد الأندلسيين المعاصرين بقوله: (كان ذلك (أي فرض القشتالية) كما لو أجبرنا على لبس حذاء غير مناسب وصغير، مما ضيق علينا جدا. فتحول الحذاء مع الأيام وتبدل إلى أن وصلنا من نظام تفاهم مفروض، وعدم ملائم، إلى نظام يتناسب أكثر مع خصوصيتنا) [2]

وبرز الأندلسيون المعاصرون في نفس مهن أجدادهم، كالنجارة وصناعة الحرير والخزف ، وذلك في نفس المدن والقرى التي اشتهرت بها. كما بقي طابع اللباس والصناعات المتصلة به إسلاميا في البشرات وغرناطة ، إلى آخر القرن الماضي. والأمثلة التي تدل على استمرارية الوجود الإسلامي وتأثيره في الأندلس كثيرة.

وظهرت براعة الأندلسيين في الماضي والحاضر، في زراعة أشجار الفواكه، وتزيين الحدائق. كما بقي شعور نصارى الشمال السلبي نحو المجتمع الأندلسي، الناتج عن الاحتلال. فهم ينعتونهم إلى اليوم بكلمة ( مورو ) (مسلم) ، كشتيمة، ويتهمونهم ظلما بالتواكل والكسل، وحب اللهو، كما يتهمون بذلك باقي الشعوب الإسلامية. وطريقة توزيع الأراضي في الأندلس المعاصرة هـي أكبر شاهد على استمرارية الأمة الأندلسية عبر محنها. فبعد سقوط مدن الأندلس ومقاطعاتها، صودرت الأراضي ووزعت على الكنيسة والنبلاء القادمين من الشمال النصراني، وبقي هـذا الوضع إلى اليوم. ويعمل مالكو الأرض الجدد على استغلالها واستثمارها عبر خدامها الأندلسيين، ثم ينقلون أموالها إلى مناطق أخرى من أسبانيا لبناء المصانع والاستثمارات الأخرى. لذا لا يزال لليوم اقتصاد منقطة الأندلس استعماريا، تصدر فيه المواد الأولية المعدنية والزراعة، إلى باقي أسبانيا، ثم تستورد منها مصنوعة بأغلى الأثمان. فتصدر بذلك الأندلس [ ص: 72 ] أعمال أبنائها الذين يضطرون إلى الهجرة للعمل في أحط المهن. وأصبحت السياحة الجماعية من أهم أنشطة الأندلس ، فشوهت سواحلها وثقافتها، ونشرت الصناعات الملوثة الخراب والمرض في كثير من مناطقها.

ظل الانتماء الأندلسي دفينا في النفوس، دون تعبير واضح، إلى أن غزت جيوش نابليون الفرنسية أسبانيا سنة 1808م وعاثت فيها فسادا. فانهارت أمامها مقاومة الملك والدولة في مجريط ، وتركوا البلاد لمصيرها. فثار أهل الأندلس في قادس ضد الغزو الفرنسي كأندلسيين. وفي 14/7/1808م استسلمت لهم البحرية الفرنسية. وفي 19/7/1808م كسبت المقاومة الأندلسية معركة مصيرية في بايلن ( مقاطعة جيان ) ضد الجيش الفرنسي. وفي 17 / 12/1808م تكونت حكومة سرية في إشبيلية تحت اسم (المجلس الأعلى المركزي) . وأعلن الثوار في قادس في 19/3/1812م دستورا جديدا لأسبانيا كمملكة دستورية ، حددوا فيه سلطات الكنيسة والملك، وقرروا الديمقراطية في المعاملة بين الأفراد والجماعات والشعوب الأسبانية. واعترف الدستور لأول مرة بالأندلسيين كإحدى الشعوب الأسبانية ذات الشخصية المميزة. وظل دستور قادس مطلب الحركات التصحيحية في أسبانيا طوال القرن التاسع عشر.

وبعد خروج الفرنسيين، ألغى الملك -الذي عاد في سبتمبر عام 1812م- دستور قادس ، وأرجعت أسبانيا إلى استبداد الملك والكنيسة . وفي 1/1/1820م ثار أهل مقاطعة أشبيلة، وطالبوا العودة إلى دستور قادس. ثم عمت الثورة كل الأندلس، واضطر الملك إلى قبول دستور قادس. لكنه لم يكن مخلصا في قراره، فاستغاث بفرنسا التي أرسلت له قوة غزت أسبانيا تحت صرخات (عاش الدين! عاشت محاكم التفتيش ! عاش استبداد الملك!) . وفي 3 / 10/1823م ألغى الملك دستور قادس، فثار أهالي الأندلس وهاجموا محاكم التفتيش وأحرقوها.

وفي 28/3/1831م قام الجنرال طريخوس في الجزيرة الخضراء، بحركة عسكرية للمطالبة بدستور قادس، فقبض عليه وأعدم. وتتابعت محاولات الرجوع إلى دستور قادس، الذي أصبح أهم مطلب للوطنين الأندلسين، إلى أن [ ص: 73 ] ثارت مالقة في 3/1835م، وطرد أهلها ممثلي الحكومة، وكونوا إدارة محلية أعلنت تطبيق دستور قادس . وتبعت مالقة مقاطعات الأندلس الأخرى ومدنها، ولم يصل شهر أغسطس حتى عمت الثورة كل الأندلس، ثم مناطق أسبانيا الأخرى. وكون الأندلسيون جيشا شعبيا اشتبك مع جيش الحكومة على حدود الأندلس وهزمه. فشكلت في مجريط حكومة جديدة، أعلنت قبولها لبعض مطالب الثوار، منها مصادرة أراضي الكنيسة. لكن الأندلسيين رفضوا التعامل معها، وكونوا في بلدة أندوجر ( مقاطعة جيان ) مجلس أعلى الثورة، الذي كتب دستور ( أندوجر ) ، الذي أعلن حكما ذاتيا في الأندلس. لكن هـذا المجلس اضطر إلى أن يحل نفسه في 19 / 10/1835م. ورغم فشلها كانت لثورة عام 1835م أهمية كبرى في بلورة الهوية الأندلسية الجديدة، إذ تحركت الأندلس لأول مرة، منذ ثورات المورسكيين ، كأمة واحدة، أمام الحكم المركزي في مجريط.

ثم رجعت أسبانيا إلى فسادها الأول، من سيطرة الكنيسة عبر رهبان متعصبين جهلة، وفساد الإدارة وانتشار الرشوة. وظلت الأندلس أفقر مناطق أسبانيا، يرزح أهلها تحت تجاوزات النبلاء الشماليين والكنسية. وفي 30/6/1857م ثار الفلاحون الأندلسيون في مقاطعة إشبيلية، يطالبون بأرض أجدادهم، فقضى الجيش عليهم، وقتل منهم 25 فلاحا، وأعدم في محاكمة صورية 25 آخرين. ورغم ذلك أيقظت الثورة الفلاح الأندلسي من سباته، وحررته من عقدة الخوف المسيطرة عليه. وفي أواخر سنة 1861م ثار الفلاحون الأندلسيون من جديد في مقاطعتي مالقة وغرناطة، فقضى عليهم الجيش.

وفي 18 / 9/1868م انتشرت الثورة من قادس ضد الملكة، وشملت كل الأندلس، وهزم جيش الحكومة قرب قرطبة، وهربت الملكة إلى فرنسا. فطالب الثوار بتأسيس جمهورية أسبانيا اتحادية، تعترف بالحكم الذاتي للأندلس، وبإلغاء الدين الكاثوليكي كدين الدولة الرسمي، لكن الجيش سيطر على البلاد، واتبع سياسة الدولة المركزية. وفي 3/1/1873م أعيدت الملكية، فرجعت الحركات الاتحادية والجمهورية إلى السرية من جديد. ثم ساد الجوع [ ص: 74 ]

والفقر منطقة الأندلس ، فتنظم الفلاحون الجائعون في منظمات إرهابية، أهمها ( اليد السوداء ) زرعت الرعب في البلاد.

وفي 10/1/1874م تأسس الحزب ( الجمهوري الاتحادي ) ، الذي اتفق في أواخر سنة 1883م على مشروع ( دستور انتقيرة ) ، الذي خطط لإنشاء دولة أندلسية إتحادية ديمقراطية، تمثيلية ذات سيادة، تضمن فيها الحريات الشخصية، وتفصل فيها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وأصبح (دستور أنتقيرة) أساس المشاريع الاتحادية التي اقترحت فيما بعد.

تلخصت أهم سمات الحركة الأندلسية في القرن التاسع عشر الميلادي، في الانتماء إلى منطقة واحدة (الأندلس) ، وأمة واحدة (الأندلسية) ، والمطالبة بحقوقها، والوقوف في وجه تجاوزات الدولة المركزية، والكنيسة الكاثوليكية ، والإقطاع الزراعي. لكن بقيت أجوبة هـامة في نفوس الأندلسيين تنتظر الجواب: هـل الأندلسيون يرتبطون فقط بمصالح خاصة متصلة بمنطقتهم؟ أم هـم قومية تختلف عن كل القوميات الأخرى بخاصيات مميزة؟ وإن كان ذلك كذلك، فما هـي هـذه الخاصيات؟

أجاب عن هـذه الأسئلة بلاس انفانتي بيريز ، الذي يعده الأندلسيون اليوم، بما فيهم المسلمون، أب قوميتهم ومفكر انبعاثهم المعاصر. ولد بلاس انفانتي في بلدة قشريش ( مقاطعة مالقة ) في 5/7/1885م، من أبوين أندلسيين، ينتميان لعائلتين سليلتين للمورسكيين القدماء، عمل أفرادهما على الدفاع عن الأندلس وأهلها. فدرس دراسته الابتدائية في بلدته. ثم انتقل سنة 1896م إلى أرشذونة (مقاطعة مالقة) للدراسة الثانوية، ثم إلى قبرة ( مقاطعة قرطبة ) سنة 1897م، حيث تخرج سنة 1900م بشهادته الثانوية. ثم عمل مع أبيه في محمكة قشريش، قبل التحاقه بقسم الحقوق من كلية الفلسفة والآداب بجامعة غرناطة ، حيث تخرج بامتياز في أكتوبر سنة 1906م.

تعرف انفانتي إبان مقامه في غرناطة على التراث الإسلامي الأندلسي. ففتحت أزقة غرناطة وأهلها وأرواح شهدائها عيني بلاس انفانتي على عظمة الإسلام وحضارته الأندلسية، وأخذ شعوره الفطري شكل الهوية الإسلامية الأندلسية. وفي تهيئة لمباراة العدالة، زار انفانتي إشبيلية وقرطبة ومجريط ، [ ص: 75 ] واجتمع بزعماء الحركة الأندلسية، وأصبح يعتقد أن الهوية الأندلسية ليست هـوية عرق أو دم، ولكنها هـوية (وجود) و (معرفة) . وفي سنة 1907م زار انفانتي إشبيلية ، فوجد فيها نشاطا فكريا كبيرا: جمعيات شباب لدراسة تاريخ الأندلس، و (ألعاب وردية) تلقى فيها الخطب الحماسية الأندلسية. وفي سنة 1909م تحولت هـذه الألعاب إلى احتفال قومي أندلسي.

وفي سنة 1910م عين انفانتي عدلا في بلدة قنطيانة (بلدة الشيخ أبو مدين الغوث دفين تلمسان) ، فسكن إشبيلية القريبة منها، وأصبح ينتقل بين البلدتين. تأثر انفانتي في إشبيلية بمفكريها الأندلسيين، وساهم في أنشطتهم الثقافية. وفي 28 / 11/1913م قبل انفانتي في مجلس المحامين. وفي 23/3/1914م ألقى خطابا في ( أتينيو ) إشبيلية عن ( النظرية الأندلسية ) ، كان أساس كتابه التاريخي عن القومية الأندلسية. وفي نفس السنة فتح مكتب محاماة في إشبيلية. وفي سنة 1914م ظهرت الطبعة الأولى من كتابه (النظرية الأندلسية) [3] .

وفي سنة 1916م أسس انفانتي أول (مركز أندلسي) في إشبيلية، تبعته مراكز أخرى في مدن الأندلس وقراها، وأصدر مجلة (الأندلس) كلسان حال المراكز الأندلسية، والحركة القومية الأندلسية. ومع الأيام تحول (مركز إشبيلية الأندلسية) إلى مركز أنشطة أندلسية تثقيفية وتخطيطية، ومنه خرج المنشور الداعي إلى (اجتماع المقاطعات الأندلسية) في رندة ، الذي استعمل عبارة (الأمة الأندلسية) لأول مرة. وهكذا أصبح انفانتي بأفكاره وحركيته، رئيس تيار جديد للحركة القومية الأندلسية.

وفي 16/6/1917م ألقى انفانتي بصفته رئيس (مركز إشبيلية الأندلسية) محاضرة أساسية أعطت لأفكاره نضوجا ثوريا، صرح في آخرها: (نحن لسنا بصدد إنشاء حزب، نحن نريد إنشاء شعب قادر أن يحكم نفسه بنفسه) . وفي 13-14/1/1918م انعقد اجتماع (مجلس المقاطعات الأندلسية) في رندة، فعدد معالم القومية الأندلسية في حركتها المستقبلية في النقاط التالية: [ ص: 76 ]

(1) الاعتراف بالأندلس كبلد وقومية ومنطقة ذات حكم ذاتي ديمقراطي، على أساس دستور أنتقيرة. (2) اختيار العلم الأخضر والأبيض، علما للأمة الأندلسية، ورمز قادس شعارا لها. ثم تقدم بلاس انفانتي ، وخوزي أندرس باسكس ، باسم المؤتمر، لهيأة الأمم طالبين منها الاعتراف بالقومية الأندلسية. ودخل انفانتي اللعبة السياسية للتعريف بأفكاره القومية الأندلسية، فتقدم لانتخابات منطقة غسان - أشتبونة ( مقاطعة مالقة ) حيث توجد قشريش - فلم يفز. وفي 1/1919م شارك انفانتي في اجتماع (المجلس الإداري الأندلسي) التأسيسي، الذي انتهى بالاتفاق على (تخطيط نظري للقومية الأندلسية) ، كان له تأثير هـام على مجرى الفكر القومي الأندلسي. وفي نفس السنة تزوج انفانتي. وفي 21/5/1919م تقدم انفانتي لانتخابات إشبيلية باسم ( الديمقراطية الأندلسية ) المكونة من الجمهوريين الاتحاديين ، والقوميين الأندلسيين ، والاشتراكيين المستقبلين . وندد في خطبه الانتخابية بوضع الأندلس البئيس، وبمصالح القوى المركزية التي كانت تقرر من مجريط ، مجرى الانتخابات بالأندلس، عبر نفوذها المالي والإقطاعي. ورسب انفانتي مرة أخرى في هـذه المحاولة الانتخابية، فغضبت عليه السلطة الحاكمة واليمين ، واتهموه وأتباعه بالتآمر على أمن الدولة ووحدتها. ثم أسس انفانتي في إشبيلية دار ومكتبة (أبانتي) (التقدم) للنشر، نشر فيها عددا من كتبه، كما أسس (مركز الدراسات الأندلسية) . وفي سنة 1920م ظهر كتاب (المعتمد ملك إشبيلية) ، وهي قصة مسرحية تاريخية عرف فيها انفانتي بجذور الهوية الأندلسية الإسلامية. وكانت سنة 1921م سنة أمل للقوميين الأندلسيين، رغم الأوضاع المضطربة في مجريط، فانتشرت (المراكز الأندلسية) في المدن والقرى، وانتشر معها الفكر الأندلسي في المجالات الثقافية والاجتماعية. وأخذ انفانتي يفكر في [ ص: 77 ] إنشاء روابط ثقافية قوية، تربط الأندلسيين بعضهم ببعض، في الأندلس والمغرب وأمريكا الجنوبية . لكن في 13/1/1923م تحولت أسبانيا إلى الحكم الدكتاتوري الذي قضى على الحريات، وأقفل (المراكز الأندلسية) ، واتهم القوميين الأندلسيين بمقاومة الدولة، وأسكت القوى المعادية للكنيسة. فانتقل انفانتي تحت ضغط عائلته، إلى ايسلاكريستينا ( مقاطعة ولبة ) كموثق عدل، وانسحب من العمل السياسي، ونصح أتباعه بذلك. ثم ركز على التفكير في مصير الأندلس وجذور الهوية الأندلسية . وفي 15 / 9/1923م في ذروة معارك الريف ضد المستعمر الأسباني، زار انفانتي قبر المعتمد بن عباد في أغمات بالمغرب، حيث تعرف على بعض أبناء الأندلس، فقرر إشهار إسلامه على يدهم. ثم حاول بعد إسلامه ربط الحركة الأندلسية بالحركات الإسلامية والعربية [4] وفي سنة 1930م انهارت الدكتاتورية، فنقل انفانتي عمله كموثق عدلي إلى بلدة قورية بالقرب من إشبيلية . وفي سنة 1931م أسس (مجلس الأندلس التحرري) عوضا عن المراكز الأندلسية القديمة، وانضم إلى (الحزب الجمهوري الاتحادي) . وأصبح انفانتي يمجد التاريخ الإسلامي كأساس الهوية الأندلسية، ويطالب الأندلسين باستعادة الهوية والتاريخ والأرض، وبإزاحة هـيمنة الكنيسة على الدولة، ويهاجمها على جرائمها في القضاء على الأندلسيين وعلى (زهرة ما تبقى من ثقافتنا) . وفي 4/1940م انعقد في دلهي بالهند مؤتمر (الشعوب التي لا دول لها) ، شارك فيه عن القوميين الأندلسيين الشاعر الأندلسي المسلم آبل قدرة ، الذي بين في خطبته للحاضرين أن نضال تحرير الأندلس هـو جزء من نضال شعوب آسيا وأفريقيا المغلوبة على أمرها، وأبان أن جذور القومية الأندلسية هـي الإسلام [5] [ ص: 78 ] ثم التقى انفانتي بالحركات التحريرية العربية عبر مجلة "الأمة العربية" في جنيف ( سويسرا ) التي كانت ينشرها الأمير شكيب أرسلان ، وإحسان الجابري .

هذه أفكار انفانتي والقوميين الأندلسيين الواضحة بعد عشرينيات القرن العشرين الميلادي: هـوية الأندلس إسلامية، وليست غربية، مما دفع أعداءهم إلى رميهم بالاتهامات المتواصلة، فحوربت الحركة من طرف اليمين واليسار على حد سواء. وفي يوم 2/8/1936م بعد 14 يوما من انفجار الحرب الأهلية الأسبانية، هـجمت فرقة من الكتائب على انفانتي في بيته (دار الفرح) بقورية ، وساقته إلى إشبيلية ، حيث سجنته وأعدمته رميا بالرصاص يوم الاثنين 10/8/1936م، فمات شهيدا رحمه الله، وهو يصرخ مرتين: عاشت الأندلس حرة! [ ص: 79 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية