الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم (جذورها ومسارها )

الدكتور / علي المنتصر الكتاني

مقدمة

من أهم مظاهر الصحوة الإسلامية في السنين الأخيرة، هـو ظهور الإسلام والانتماء إليه في مناطق لم يكن فيها من قبل، أو كان فيها واندثر، ولا شك أن تواجد الإسلام في هـذه المناطق، يزيد أو ينقص حسب اختلاف تاريخها، وقربها من البلاد الإسلامية. وتعم عادة هـذه الصحوة أبناء المهاجرين وأحفادهم، الذين ينتمون إلى الإسلام على أي حال، وتظهر فيهم عبر زيادة الوعي به، ومحاولتهم جهدهم أن يبسطوا سلطانه على جوانب حياتهم المختلفة، ويعرفوا به لمن حولهم، ويدعون الآخرين إليه.

ولكن الحدث الفريد هـو أن تظهر الصحوة الإسلامية في مجتمع بعيد كل البعد في ظاهره عن الإسلام، ومن بين أفراد لم يولدوا مسلمين. وتحدث هـذه الظاهرة اليوم في الأندلس ، المنطقة الجنوبية من أسبانيا المعاصرة. فما أسبابها؟ وما هـي قوتها؟ ومتى ابتدأت؟ وإلى أين تتجه؟

هذه أسئلة حاول هـذا الكتاب الإجابة عنها، إذ يظهر فيه جليا أن الصحوة الإسلامية في المجتمع الأندلسي، لا تختلف عن مثيلاتها في المجتمعات الإسلامية. وسبب ذلك أن الشعب الأندلسي الذي عاش مسلما لمدة تقرب من الثمانية قرون، كان أول ضحية للهجمة الصليبية، التي حاربت الإسلام بين أبنائه، حتى قضت عليه ظاهرا. فمنذ سقوط غرناطة سنة 1492م، تفننت الكنيسة والدولة آنذاك في اضطهاد الأندلسيين اضطهادا لا يوصف، بعد أن نصروهم بالقوة، ومنعوهم من التكلم بالعربية، وأحرقوا كتبهم بالآلاف في الساحات العامة، وقتلوا علماءهم، وأحرقوهم أحياء، وأخذوا أبناءهم لتعليمهم الدين النصراني. فقاوموا المقاومة المستميتة جيلا بعد جيل، رغم تسلط محاكم التفتيش التي أحرقت، واستعبدت، وسبت العباد، وصادرت، أو أتلفت الأموال. وقاوم الأندلسيون، دون مساعدة من العالم الإسلامي، طوال مائة وعشرين سنة بعد سقوط غرناطة، فثاروا وتمردوا، وتشبثوا بالإسلام سرا، رغم كل المحن. وأضاعوا الكل، المال والشرف والحرية والكرامة، وأحيانا الحياة، [ ص: 29 ] لكنهم لم يضيعوا أعز ما عندهم، وهو الإيمان بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) .

وهكذا انهزمت القوى الصليبية أمام عنادهم، فقررت طرد الطبقة الرائدة منهم سنة 1609م، فانهال على البلدان الإسلامية المطلة على البحر الأبيض المتوسط حوالي ربع مليون منهم، يجهل معظمهم اللغة العربية، ويتسمى بأسماء أعجمية، لكنهم كلهم سعداء بإعلان إسلامهم جهرا دون خفاء. ومسح الإسلام من الأندلس ظاهرا بعد ذلك، لكنه بقي ذكرى جماعية في نفوس الأندلسيين، ظهرت في تمرداتهم المتواصلة، وفي شكل قومية متميزة، تعتز بتاريخ الإسلام ورموزه، إلى أن أوضح ذلك في أوائل القرن العشرين في نظرية متكاملة، زعيمهم ( بلاس أنفانتي ) ، الذي اعتنق الإسلام وقتل شهيدا- رحمه الله- من طرف القوى الصليبية.

وعندما خرجت أسبانيا سنة 1975م لأول مرة بعد سقوط غرناطة ، من ظلام الاستبداد عبر كثير من الأندلسيين عن انتمائهم الإسلامي، وابتدأت الجمعيات الإسلامية تتكون بينهم منذ سنة 1980م. وأخذت هـذه الجمعيات تحاول جهدها في مجتمعها الأندلسي الجديد التعرف على الإسلام، ومبادئه من جديد، والتعريف به، وتعلم اللغة العربية وتعليمها، ودراسة تاريخ الأندلس الإسلامي ، وجهاده، وتعريف شعب الأندلس به.

وقد حاول هـذا الكتاب دراسة جذور الصحوة الإسلامية في الأندلس، والتعريف بجهاد الشعب الأندلسي المسلم عبر القرون، من أجل الحفاظ على هـويته الإسلامية أو ما تبقى منها، ومجهود الحركة الإسلامية في الأندلس، لإنشاء مجتمع مسلم أندلسي مرتبط بأمته، يكون المسلمون الأندلسيون فيه الطائفة الرائدة، لتعريف شعب الأندلس بأكمله بأمجاده.

فالصحوة الإسلامية في الأندلس هـي قبل كل شيء أندلسية، وليدة المجتمع الأندلسي وتجاربه المريرة. ونجاحها هـو رهين مساندة هـذا المجتمع لها، ورهين تمكنها من مواصلة الحوار مع طبقاته الحية. نرجو لها النجاح والتوفيق.

ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل. ولا غالب إلا الله.

الدكتور: علي المتنصر الكتاني. [ ص: 30 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية