أريد أن أعرض لكلمة (الدعاء) في لغة التنزيل العزيز ثم أخلص من ذلك إلى النظر في الدعاء لغة وأسلوبا.
قال الله تعالى: ( وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) (البقرة:23) .
قال أبو إسحق الزجاج : يقول: (ادعوا من استدعيتم طاعته ورجوتم معونته في الإتيان بسورة مثله) [1] وقال الفراء : ( وادعوا شهداءكم من دون الله )
يقول: آلهتكم، يقول: استغيثوا بهم، وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدو خاليا فادع المسلمين، ومعناه: استغيث بالمسلمين، فالدعاء هـهنا بمعنى الاستغاثة.
وقد يكون الدعاء عبادة كم في قوله تعالى: ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) (الأعراف:194) .
وقوله بعد ذلك ( فادعوهم فليستجيبوا لكم ) (الاعراف:194) .
يقول: ادعوهم في النوازل التي تنزل بكم إن كانوا آلهة كما تقولون، يجيبوا دعاءكم، فإن دعوتموهم فلم يجيبوكم، فأنتم كاذبون إنهم آلهة.
وقال أبو إسحق في قوله تعالى: ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) (البقرة:186) معنى الدعاء لله على ثلاثة أوجه: فضرب منها توحيده والثناء عليه [ ص: 76 ] كقولك: يا الله لا إله إلا أنت، وكقولك: ربنا لك الحمد، إذا قلته فقد دعوته بقولك: (ربنا) ثم أتيت بالثناء والتوحيد.
ومثله قوله تعالى: ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي ... ) (غافر:60) فهذا ضرب من الدعاء، والضرب الثاني: مسألة الله العفو والرحمة وما يقرب منه كقولك: اللهم اغفر لنا، والضرب الثالث: مسألة الحظ من الدنيا كقولك: اللهم ارزقني مالا وولدا، وإن سمي هـذا جميعه دعاء؛ لأن الإنسان يصدر في هـذه الأشياء بقوله: يا الله يا رب، يا رحمن، فلذلك سمي دعاء.
وفي حديث عرفة : ( خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) (حسن، رواه الترمذي ) وإنما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء؛ لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله وجزائه.
وأما قوله عز وجل : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ) (الأعراف:5) ، المعنى: إنهم لم يحصلوا مما كانوا ينتحلونه من المذهب والدين، وما يدعونه إلا علي الاعتراف بأنهم ظالمين، هـذا قول أبي إسحق [2] قال: والدعوى اسم لما يدعيه، والدعوى تصلح أن تكون في معنى الدعاء، لو قلت: اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين أو دعوى المسلمين، جاز، حكى ذلك سيبويه ، وأنشد:
قالت ودعواها كثير صخبه
وأما قوله تعالى: ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) (يونس:10) فيعني أن دعاء أهل الجنة تنزيه الله وتعظيمه، وهو قوله: ( دعواهم [ ص: 77 ] فيها سبحانك اللهم ) (يونس:10) ثم قال: ( وآخر دعواهم ... ) أخبر أنهم يبتدئون دعاءهم بتعظيم الله وتنزيهه، ويختمونه بشكره والثناء عليه، فجعل تنزيهه دعاء وتحميده دعاء أنه قال: الدعاء هـو العبادة، ثم قرأ: ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي ) (غافر:60) ، (رواه الإمام أحمد ، والحاكم ) .وقال مجاهد في قوله: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) (الكهف:28) : قال: يصلون الصلوات الخمس.
وروي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى: ( لن ندعو من دونه إلها ) (الكهف:14) ، أي لن نعبد إلها دونه .
والدعاء: الرغبة إلى الله عز وجل .
وفي الحديث: ( لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة ) (رواه مسلم والنسائي ) ، يعني الشيطان الذي عرض له في صلاته، وأراد بدعوة سليمان عليه السلام قوله: وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي.
ومنه الحديث: ( سأخبركم بأول أمري، دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ) ، دعوة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) (البقرة:129) ، وبشارة عيسى عليه السلام قوله تعالى: ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) (الصف:6) .
وفي حديث معاذ رضي الله عنه لما أصابه الطاعون قال: " ليس برجز ولا طاعون، ولكنه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم صلى الله عليه وسلم " ، أراد قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن والطاعون ) (رواه الإمام أحمد ، الطبراني ) . [ ص: 78 ]
و : دعوت الله له بخير وعليه بشر.
والدعاء واحد الأدعية.
هذا هـو معنى الدعاء ودلالته في اللغة والاستعمال.
وقد بلغت العربية في أسلوب الدعاء مبلغا، قل أن نقف على نظيره في سائر اللغات القديمة.
قلت: (اللغات القديمة) لأخصص أن هـذا الأسلوب في صوره ودلالاته خاص بالعربية القديمة، وأن العربية المعاصرة، قد خلت من هـذه الصور البيانية التي تبرز في أساليب الدعاء، والأساليب الأخرى. ألا ترى أن هـذه العربية الجديدة قد خلت من (المثل) وإن كل ما يتمثل به المعربون أحيانا هـو مثل قديم استعير لمطالب الحياة الجديدة في بعض الأحايين. وقد يقال: إن اللغات في عصرنا غير محتاجة إلى هـذه الألوان الفنية، لأن حاجات جديدة قد جدت، صرفت المعربين إلى أن يجدوا في اللغة ما يفي بها.
ومن هـنا كانت دراسة الأساليب القديمة، والوقوف عليها، شيئا يدخل في معرفة تاريخ هـذه اللغة العريقة.
قالوا: الدعاء ينصرف للخير، كما ينصرف للشر، وقد يدرك هـذا أحيانا باستعمال الأداتين: (اللام) في الخير، و (على) في الشر فيقال: أدعو لك، وأدعو عليك.
ويتجاوز استعمال هـاتين الأداتين أسلوب الدعاء إلى أسلوب الخبر، فينصرف كذلك إلى الخير والشر فيقال مثلا: يوم لنا، ويوم علينا، وقد بقي في استعمال ( على) شيء من هـذا الجنوح إلى الشر [3] ولعل من أجل ذلك، عيب قول أبي تمام في مطلع قصيدته البائية: [ ص: 79 ]
على مثلها من أربع وملاعب أذيلت مصونات الدموع السواكب
قلت: إن الأدب القديم، قد حفل بكثير من فنون الدعاء، ولنعرض لذلك فنقول: تختلف جمل الدعاء في العربية، فهي قد تبدأ بالفعل، وقد تبدأ بالاسم المرفوع، وقد تبدأ باللام ومدخوله، وكثيرا ما يأتي معنى الدعاء في عبارة صدرت بالمصدر المنصوب.
فمما بدئ بالفعل قولهم: هـديت خيرا (بالبناء للمفعول) ، ولقيت خيرا، وصادفت رشدا، ووقيت الشر، وسهل الله عليك، وفرج الله عنك، كل ذلك وغيره مما يتقرب به، دعاء. لك أن تتسع هـذا، فتنشئ ما تريد مما ترمي به إلى الخير مفصحا عن رغبتك في ذلك، فيؤدي الدعاء، كأن تقول: هـداك الله، وبلغت مرادك، ووفقك الله.
ومثل هـذا ما ينصرف إلى الشر إرادة الدعاء نحو: عدمت خيرا، ولقيت شرا، وقاتلك الله، ولعنك الله، وغير ذلك.
ومن هـذا ألفاظ التصلية، والتسليم، والرحمة، والرضوان، على النبيين والأولياء وسائر الصالحين، فنقول في (الصلاة والسلام) على نبينا محمد: صلى الله عليه وسلم .
ونقول: عيسى وموسى وسائر الأنبياء: عليهم السلام.
ونقول: ومن حديث علي رضي الله عنه ، وقد ورد أيضا كرم الله وجهه.
ونقول: وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه .
كما نقول: ومما أثر عن الإمام الشافعي وأضرابه: رضي الله عنهم
وقد تبدأ عبارة الدعاء بالاسم المرفوع نحو:
ورحمة الله عليه، ورضوان الله عليه، وسلام الله عليه...
كما نقول: لعنة الله عليه [4] وقد يعطف عليه كقولهم: لعنة الله [ ص: 80 ] وغضبه عليه.
وقد يؤخر المرفوع، فيبدأ باللام ومدخوله نحو:
لك الحمد ولك الخير ولك السعد.
كما نقول: لك الله، قال المتنبي في رثاء جدته:
لك الله من مفجوعة بحبيبها قتيله شوق غير ملحقها وصما
لك الويل لا تقتل عطية إنه أبوك ولكن غيره فتبدل
نحو: لا فض فوك، في استحسان قول أحدهم، كأنه قيل، أحسنت.
والمعنى: لا تكسر أسنانك، والفم هـهنا الأسنان، كما يقال:
سقط فوه، يعنون الأسنان.
وقد ترد العبارة بالفعل المضارع: لا يفضض الله فاك.
ومن ذلك حديث النابغة الجعدي لما أنشد الرسول الكريم القصيدة الرائية
قال: فعاش مائة وعشرين سنة لم تسقط له سن.
وفي ( حديث العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله إني أريد أن امتدحك، فقال: (قل لا يفضض الله فاك ) [5] ، ثم أنشده الأبيات القافية.
ومثل هـذا: لاعدمتك، ولا ظفر حاسدوك.
ومن المناسب أن نشير إلى أن الفعل (زال) المفيد للاستمرار، يترشح للدعاء إذا سبقه (لا) كقول ذي الرمة :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر
ومن المفيد أن أشير قبل الكلام على (انهلال القطر) في البيت، إلى أن [ ص: 81 ] صدر البيت قد حفل بنمط آخر من الدعاء، وذلك بالأمر في (يا اسلمي) والخطاب إلى (دار مي) . يدعو أن تسلم على البلى، فلا ينال منها الزمان شيئا.
أقول: واستعمال الأمر كثير في لغة الدعاء، ولعله أكثر سيرورة من الصيغ الأخرى، وهذا يعني أن (الأمر) قد خرج إلى الدعاء والالتماس، رغبة في شيء ينصرف إلى الخير حينا، وإلى الشر حينا آخر.
ويأتي في لوازم هـذه الجمل الدعائية، أسلوب النداء المتمحض للدعاء كقولنا: اللهم انصرنا على الأعداء، وربنا اهدنا إلى سواء السبيل. وأنت واجد من هـذا الأسلوب الشيء الكثير، مما حفلت به لغة التنزيل العزيز كما سنرى.
ولنعد إلى بيت ذي الرمة فنقول: إن دعاءه بانهلال القطر أسلوب درج عليه العرب في جاهليتهم وإسلامهم. وإن هـذا الدعاء يكاد يكون أحيانا كالتحية، ألا ترى أن هـذا يتحقق في قول النابغة:
نبئت نعما على الهجران عاتبة سقيا ورعيا العاتب الزاري
وليس قولهم: (رعاك الله) إلا مشيرة إلى هـذا الأصل القديم، الذي هـو الرعي للسائمة من الإبل وغيرها، فكأن قولهم: (رعاك الله) المراد بها (الرعاية) تلمح إلى دأب الرعاء مع إبلهم.
ومن الغيث قالوا: جادك الغيث، أي أصابك غيث جود، وهو العزيز.
والدعاء بالسقي كثير في الأدب القديم، قال جرير :
أتذكر إذ تودعنا سليمى بفرع بشامة سقي البشام
وقوله:
متى كان الخيام بذي طلوح سقيت الغيث أيتها الخيام
قال الأصمعي : أخبرني أبو عمرو بن العلاء قال:
سمعت ذا الرمة يقول: قاتل الله أمة بني فلان ما أفصحها!
قلت لها: كيف كان المطر عندكم؟ فقالت: غثنا ما شئنا.
والمعنى: سقينا ما شئنا. وهكذا عدلت عن (المطر) في سؤال السائل إلى (الغيث) .
وقد تأتي عبارة الدعاء مبدوءة بمصدر منصوب، كقولهم: سقيا ورعيا، وحمدا لك اللهم، وأهلا وسهلا، وغير هـذا.
وقد يأتي أسلوب الدعاء رسما من رسوم الأدب مما يقتضيه الظرف وحسن المعاشرة، ومن ذلك قولهم للمملك دعاء له:
(بالرفاء والبنين) أي بالالتئام والاتفاق وحسن الاجتماع.
قال ابن السكيت : وإن شئت كان معناه بالسكون والهدوء والطمأنينة، ففي الحالة الأولى، يكون الأصل (رفأ) ، وفي حالة الثانية، يكون الأصل (رفا) آخره ألف من قولهم: رفوت الرجل إذا سكنته.
قالوا: رفأه ترفئة وترفيئا: دعا له: قال له: بالرفاء والبنين.
وقالوا: رقح بمعنى رفأ. وفي الحديث: كان إذا رقح إنسانا قال: (بارك الله عليك) .
ومن هـذا الباب قولهم في الدعاء للعاطس: يرحمك الله.
وهو التسميت أي ذكر الله- عز وجل - على كل حال، وقيل: معناه هـداك الله إلى السمت، وذلك لما في العاطس من الانزعاج والقلق. [ ص: 83 ]
وقد سمته إذا عطس فقال له: يرحمك الله، أخذ من السمت إلى الطريق والقصد، كأنه قصده بذلك الدعاء، أي جعلك الله على سمت حسن.
ومن هـذا الباب أيضا ما يقال للعاثر: حوجا لك: أي سلامة.
ولما كان الحديث عن العاثر، فمن المفيد أن نشير إلى ما جاء في هـذا من قولهم:
التعس: العثر، والتعس: أن لا ينتعش العاثر من عثرته، وأن ينكس في سفال.
قال أبو إسحق في قوله تعالى: ( فتعسا لهم وأضل أعمالهم ) (محمد: 8) ، يجوز أن يكون نصبا على معنى أتعسهم الله. وقال الأعشى :
بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
وقد يجتزأ من (لعا) بقولهم: عا لك عاليا للدعاء بالإقالة، أنشد ابن الأعرابي :
أخاك الذي إن زلت النعل لم يقل: تعست، ولكن قال: عا لك عاليا