الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
بين الأصالة والتوهم

ذكرت أن " المسيل " هـو السيلان ومن هـنا كانت الميم زائدة، ولما جمع المسيل على " أمسلة " و " مسل " و مسلان و " مسائل " ، علم أنهم توهموا أصالة الميم، وهي زائدة في الحقيقة.

والأمر يتجاوز هـذا، ذلك أن اللغويين أفردوا لها مادة في المعجم القديم، وكأنها أصل، وزاد فيها المعربون وذهبوا كل مذهب فكان منها " المسل " لمسيل الماء أيضا وكان منها " المسل " بإسكان السين للقطر. ومن عجب أن جملة هـذا في مادة " مسل " ولم يكن له إشارة في مادة " سيل " . ومن هـذا أيضا أن " مدينة " قد جمعت على مدائن، ولم يلتفت إلى أصالة الياء بل حسبت مثل ياء " فعيلة " زائدة فجمعت على ذلك فكانت " مدائن " . وقد جعلها اللغويون أصلا في المعجم القديم " م د ن " . والحقيقة التاريخية تشير إلى أنها " د ي ن " ، غير أن مادة " د ي ن " في المعجم القديم قد خلت مما يشير إلى " المدينة " . إن المدينة تشير في صوغها إلى أنها من " الدين " أي الحساب ومن هـنا انصرفت إلى معاني التمدن والتحضر. إن " يوم الدين " في الأدب الإسلامي هـو يوم الحساب ويوم الحكم.

وهذا المعنى هـو نفسه في الأصول السامية، فبيت الدين هـو هـذا المعنى في اللغة الآرامية، ومن هـنا سميت كنيسة " بيت الدين " ، وهي من حواضر لبنان. وبيت الدين في اللغة العبرانية تعني بيت الحكم، أي المحكمة.

فمن حقنا أن نضع الأصلين في المعجم التاريخي، ويشار في مادة " د ي ن " [ ص: 149 ] إلى مادة " م د ن " . وقد فطن الأزهري إلى شيء من هـذا في جموع " مسيل " التي تقدمت فقال: وهذه الجموع على توهم ثبوت الميم أصلية مثل مكان وأمكنة، قال ساعدة بن جؤية، يصف النحل:

منها جوارس للسراة وتختوي [1] كربات أمسلة إذا تتصوب

ولكن الأزهري حين أتي بالشواهد أراد أن يثبت معنى " أمسلة " فيه فقال: و " الأمسلة " جمع " المسيل " ، وهو الجريد الرطب، وجمعه " المسل "

وقال: " سمعت أعرابيا من بني سعد نشأ بالأحساء، يقول لجريد النخل الرطب: " المسل " ، والواحد " مسيل " [2] ومن هـذا أيضا قولهم: " ماء معين " ، أي صاف عذب نمير، قال تعالى: ( يطاف عليهم بكأس من معين ) - (الصافات:45) . وقوله تعالى: ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ) - (الملك:30) .

وقد ورد " المعين " في مادة " عين " في المعجم القديم، ووروده هـنا يشير إلى أصله وهو " عين الماء " . كما ورد في مادة " معن " ، ومن دلالات " المعن " الاستقاء [3] إلا أن " معن " دلت على مواد كثيرة ابتعدت عن الماء والاستقاء فصارت مادة قائمة وحدها، لا صلة لها بـ " عين " ومن ذلك " المعان " ، بمعنى المكان أو المنزل، و " الماعون " بمعنى الطاعة والزكاة وأسقاط البيت.

ومن هـذا أيضا " المكان " الذي جمع على أمكنة، وقد سبق الكلام عليه.

ولكني أضيف هـنا إلى أن شهرة " المكان " وسيرورة استعماله جعلا منه [ ص: 150 ] أصلا. أقول: " أصلا " لأنهم أخذوا منه الفعل " م ك ن " الدال على القدرة، و " التمكن " ، الثبوت في المكان والاستقرار فيه، ثم اتسع فيه إلى القدرة مطلقا.

و " المكين " : هـو القادر المتمكن ذو المكان





[4] وكأنهم حسبوه على " فعيل " ولم يلمحوا إلى أنه من " ك و ن " .

خـاتمـة

وبعد فهذا موجز مفيد عرضت فيه لجملة من ألفاظ الجمع، وشققت فيها الكلام على الأصول وما عرض لها في تاريخها في الاستعمال من ضروب من الاتساع حتى انتهت إلى ما انتهت إليه. وكأني أدرك أن المعرب القديم تجاوز فيما دعي بـ " التوهم " مسألة الصواب والخطأ.

ومن عجب أنه صوب مسائل ضاق بها المعاصرون فذهبوا فيها إلى الخطأ. ويحسن بي في هـذا الصدد أن أفيد من سماحة لغة الذكر وشجاعتها فأورد منها:

الأول: وهو مفيد كل الفائدة من الناحية اللغوية التاريخية، قال تعالى : ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ... ) (الأنبياء:30) . فعوملت " السماوات " و " الأرض " مثنى فقال: " كانتا " ثم فتقناهما. فلينظر أصحابنا الذين لا علم لهم، شجاعة العربية في هـذا الكلم البليغ: ألا ترى كيف استقام وضع الجمع مع المفرد ثم الإخبار عن هـذه التركيبة بما يشعر أنهما مثنى؟

والثاني: مجيء مفعلة مجموعة على " مفاعل " كما في قوله تعالى: [ ص: 151 ] ( وحرمنا عليه المراضع من قبل ) (القصص:12) .

أقول: و " المراضع " في سياق الآية، تشير بوضوح إلى أنها جمع " مرضعة " ، وهي أدل من أن تكون جمع " مرضع " ، وإن كان هـذا لا يمتنع. ومن هـنا فهو من الجمع العزيز الذي نستدل به على قوة جمع " مصائب " التي تقدم الكلام عليها.

الثالث: وهو قوله تعالى: ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) (فصلت:11)

وفي هـذه الآية اجتمعت التثنية والجمع، فالمتحدث عنه مثنى، والضمير الذي عاد عليه، ضمير تثنية، وهو ألف الاثنين في " قالتا " ، ولكن المحمول عليها من الوصف الذي جاء حالا من الضمير في " أتينا " كانا جمعا مذكرا سالما وكأن السماء والأرض حين نسب إليهما ما هـو خاص بالآدميين، وهو القول، صوغ ذلك أن يجيء لهما ما جاء في الآية في قوله تعالى: ( أتينا طائعين ) ، وأن تعامل في النحو معاملة العاقل فتتحدث بلسان العاقل كما ورد في الآية الكريمة.

أقول: لو كان لي أن أتوسع قليلا لتجاوز مني هـذا الموجز الصفحات الكثيرة، وفي الذي أوردته بعض ما أرمي إليه.

وهذه طائفة أخرى من الجموع مما جاء في العربية على " أفاعيل " و " فعاليل " و تفاعيل، وقد يجيء على " فعالل " وأبنية أخرى.

وقد بدا لي أن أعرض لهذه الطائفة من الجموع، لخصوصية فيها، ذلك أن الجموع قد اهتدى إليها المعربون قبل أن يكون في كلامهم ولغتهم مفرداتها. إنهم بنوا الجموع على مصادر موادها كما نرى وسأدرج هـذه الطائفة من الجموع [ ص: 152 ] على حسب حروف المعجم، ودونك ما وصل إليه استقرائي:

1- أبابيـل

" أبابيل " وهي الجماعة في تفرقة، ولم ترد هـذه في العربية سوى في قوله تعالى: ( وأرسل عليهم طيرا أبابيل ) (الفيل:3)

قال القدامى، من علماء اللغة وأصحاب " غريب " القرآن: إنها جمع لا واحد له بمنزلة " عباديد " و شماميط و " شعاعيل " .

غير أن نفرا من أهل اللغة، أعملوا النظر فأخرجوا لهذا الجمع مفردا، وكأنهم تخيلوه وهو بحسب تصورهم: " إبيل " و " إبول " ، وقالوا أيضا " إبالة " ، ولم يرد أي من هـذه المفردات في نصوص العربية



[5]

2- أسـاطيـر

" الأساطير " معناها ما سطره الأولون، وواحد الأساطير أسطورة مثل أحدوثة وجمعها أحاديث. أقول: وردت " الأساطير " في آيات عدة بقوله تعالى: [ ص: 153 ] ( أساطير الأولين ) والكلمة جمع، ولم يسبقها المفرد في الاستعمال بدلالة ما قيل في المفرد، فقد ورد في كتب اللغة: واحدة الأساطير إسطار وإسطارة وأسطير وأسطيرة وأسطور وأسطورة.

وقال قوم: أساطير جمع أسطار، وأسطار جمع سطر، فكأن " أساطير " على رأي هـؤلاء جمع الجمع.

وقال أبو عبيدة: " سطر ويجمع على أسطر ثم جمع على أساطير " . أقول أيضا: وهي لا تخرج في الدلالة عما يسطر من كتابات، وهي في قوله تعالى تحتمل النبز، أي أن كتابات الأولين لا تعني شيئا ذا قيمة.

وقد وردت في الجمع، وهو المراد المقصود، ولم يستعمل المفرد لهذا المعنى في النبز، ومن أجل ذلك أعمل اللغويون نظرهم فوضعوه في عدة أبنية، ذلك أنهم نظروا في الأشباه والنظائر، فكان من ذلك أبنية عدة في المفرد، وأما ما يذهب إليه المعاصرون من فهم للأسطورة، فلم يكن في نصوصنا الأدبية التاريخية شيء يومئ إلى شبه يسير، بما يعرف عن " الأساطير " ، لدى الإغريق والرومان، وشعوب الشرق القديم. و " الأساطير " في فهم المعاصرين واستعمالهم جمع مرتجل لا واحد له، ولكنهم قالوا: " أسطورة " وحملوها ما لها في اللغات الأجنبية Fable أوMythe وحقيقة الأسطورة في العربية أنها تدل على غير ما تدل عليه في اللغات الأجنبية: إنها مجموعة أسطر أو كتابة شيء مسطور. وهي مأخوذة من الجمع " أساطير " قياسا على نظائرها: الأضاحيك والألاعيب والأهاجي، جمع أضحوكة وألعوبة وأهجية.

3- أشـائب

و " الأشائب " هـي الأخلاط، وهرع أهل " المعرب " إلى القول: إنها فارسية وأن أصلها أشوب. [ ص: 154 ]

أقول: وأصحاب المعجمات جعلوها أصلا وهو " أشب " و أشب الشيء أي خلطه، و " الأشابة " من الناس الأخلاط، قال النابغة:

وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت كتائب من غسان ير أشائب

أقول أيضا: ومن حق صاحب المعجم التاريخي أن ينظر في الأصول المتشابهة، ويصل العلاقات بينها، إذ لا بد لكل منها أن يتصل بصاحبه وأن هـذه نسيج واحد، يتصل سداه بلحمته.

إن مادة " أشب " لا بد أن تكون مع مادة " شوب " شيئا واحدا، فالشوب هـو الخلط. وكل ما جاء في " الشوب " من دلالات كالعسل وغيره مثلا كان معنى " الخلط " حاضرا فيه.

و " الشائبة " ك وجمعها " شوائب " هـي الأقذار والأدناس، تومئ بوضوح إلى " الخلط " . ومن هـنا كان بين المهموز " أشب " والأجوف " شوب " علاقة الشيء نفسه. أو قل: إن " شوب " هـو الأصل قد ذهب به إلى المهموز، ومن هـذا الكثير في العربية، ومنه " شور " ومنه " أشار " نجده واضحا في " أشر " .

ومن المفيد أن يشير صاحب المعجم التاريخي، وحقه ذلك، إلى مادة " شيب " . إن دلالة " الشيب " معروفة في العربية، وهو ابيضاض شعر الإنسان، ومنه الأشيب للرجل، ولا يقال للمرأة " شيباء " .

والأساس هـو اختلاط البياض بالسواد، وخص بشعر الإنسان. وكأن فكرة الخلط حين اكتسبت هـذه " الخصوصية " اتسعت في العربية، فأفادت من الواو والياء، فانصرف " شاب يشوب " إلى مطلق الخلط، وانصرف " شاب يشيب " إلى الخلط الخاص بين اللونين في الشعر وهما البياض والسواد. وهذا معروف في العربية وله نظائر، ألا ترى أن " البون " هـو المسافة وأن " البين " هـو البعد والفراق، [ ص: 155 ] وليس هـذا وذلك بعيدا عن كلمة " بين " ، الظرف المكاني ثم الزماني. ومثل هـذا " الطير " ودلالته معروفة و " الصور " ودلالته على التقلب منصرفا إلى مصدر أميت فعله هـو " طار يطور " .

4- أظافـير

و " الأظافير " جماعة الأظفار.

وقالوا: الظفر وجمعه أظفار وأظفور









[6] وأظافير.

وهو الأظفور، وعلى هـذا قولهم أظافير لا على أنه جمع أظفار الذي هـو جمع ظفر. [ ص: 156 ]

أقول: والذي درج عليه المعربون في أيامنا أنهم يقولون في جمع ظفر " أظافر " ، فلم يرد في كلامهم ولا في كتابتهم " أظفر " ولا " أظافير " . وقد تكون " أظافير " ، وهو جمع " ظفر " أو " أظفور " على قول جماعة، غير داخلة فيما أنا فيه، ذلك أنها جمع مفرده معروف، وكنت قدمت، أن طائفة الجموع التي تكلمت عليها هـي تلك التي اهتدى إليها المعربون في ممارستهم اللغوية، ولم يفكروا في المفرد لها، ولم يرد في استعمالهم. ولكن اللغويين فكروا فيه فذكروه في صيغ عدة كما رأينا في " أبابيل " و " أساطير " .

وسيقال إذن، لم ذكرت " الأظافير " وهي مخالفة لما اشترطت وذهبت إليه؟ وأنا أرد على هـذا القائل محترزا بما ذهب إليه أحد الدارسين المجتهدين من المسلمين الهنود، وهو المولوي السيد كرامت حسين الكنتوري في كتابه " فقه اللسان " الذي اشتمل على نوادر الألفاظ، وما عرض لها في أبنيتها من الإبدال وزيد فيها حتى تحولت من الثلاثي إلى الرباعي. وفي هـذا الكتاب جاء: إن " حذافير " أصلها " أظافير " وسيأتي هـذا في حذافير.

والكتاب قد طبع وهو بخط اليد على طريقة " طبع الحجر " في مجلدين في الهند.

5- أظـانـين

و " الأظانين " على غير قياس، وهي جمع " ظن " مثل " الظنون " وهي من النوادر، وهذه قد يلجأ إليها الشاعر عند الضرورة والحاجة، أنشد ابن الأعرابي:

لأصبحن ظالما حربا رباعية     فاقعد لها ودعن عنك " الأظانينا "

وليس لنا أن نعمل فيها النظر والقياس فنذهب إلى أنها جمع " أظنونة " أو نقول: أنها جمع الجمع. [ ص: 157 ]

6- بيوتـات

و " البيوتات " : جمع الجمع، ذلك أن " بيت " يجمع على " بيوت " وأبيات ثم " بيوتات " على جمع الجمع. إن جمع الجمع مادة لغوية لا تعني ما يراد منها في اللفظ أي الجمع الكثير، بل إنها لإفادة الخاص لا العام.. إن " البيوتات " ذهبت إلى عدة قليلة من " البيوت " المشهورة، والأسر نحو قولهم: " بيوتات قريش "

ومثل هـذا قالوا: " رجالات " للجمع القليل من الزعماء والرؤوس كقولهم " رجالات العرب " . إن جمع الجمع في مصلحة هـذا، أفاد الخصوصية المتمثلة في القلة.

وقد استفيد من " جمع الجمع " في الشؤون الفنية فتحول إلى مصطلحات فنية، كما في مصطلح الصيرفة والمصارف في عصرنا ومنها: " الدفوعات " لمجموع ما يدفع في المصارف والبنوك.

و " القبوضات " لمجموع ما تقبضه المصارف والبنوك من حرفائها.

و " الحسومات " لمجموع ما يحسم من الفوائد المصرفية.

ومن مصطلحات الصوفية " الفيوضات " و " الإشراقات " و " التجليات " وغيرها.

7- تعاشـيب

و " التعاشيب " : ضروب من النبت، لا واحد له. والعشب: النبذ المتفرق: أقول : هـذا مما جرى في لغة الأقدمين، ولم يكن بهم حاجة إلى كلمة منه تكون مفردا. [ ص: 158 ]

8- تفـاريق

و " التفاريق " في قول ابن الأعرابي: إن العصا تكسر فيتخذ منها ساجور، فإذا كسر الساجور اتخذت منه الأوتاد، فإذا كسر الوتد، اتخذت منه التوادي تصر به الأخلاف. كل هـذا من أجزاء العصا، يطلق عليه " تفاريق العصا " وهو يعني أن " التفاريق " مفيدة لصاحبها، جاء في الرجز:

أشهد بالمروة يوما والصفا أنك خير من " تفاريق العصا "

والرجز لغنية الأعرابية، وقيل لا مرأة قالته في ولدها، وكان سديد العرامة مع ضعف أسر ودقة. أقول: ولم نجد في نصوصهم ولا في المعجمات مفردا للتفاريق وأنك لو قلت: " تفريق " بحسب القياس، لم تفد منه الفوائد التي كانت للجمع " تفاريق " في سلوك الأقدمين كما يشير أدبهم.

9- تلابيـب

و " التلابيب " بصيغة الجمع في لغة المعاصرين، وأنت تقرأ في أدبهم: " وأمسك بتلابيبه " ، ولو أنك سألت من يقول هـذا لأفادك أن المراد بـ " التلابيب " هـو أطراف الثوب.

وهذا هـو دأب المعاصرين أنهم كثيرا ما يستعملون الكلمة فيعطونها شيئا من معناها، أو ما يقرب منه، فيحدث في دلالتها ما يمكن أن أدعوه " تطور إلى الخطأ " .

أقول: إن الكلمة في الأدب القديم مفرد لا جمع، ودونك ما جاء من ذلك: قالوا: وتلبب المرأة بمنطقتها، هـو أن تضع أحد طرفيها على منكبها الأيسر وتخرج وسطها من تحت يدها اليمنى، فتغطي به صدرها، وترد الطرف الآخر على منكبها الأيسر. [ ص: 159 ]

وقالوا أيضا: و " التلبيب " من الإنسان هـو ما في موضع اللبب من ثيابه، وتلبب الرجل،تحزم وتشمر. . و " اللبب " كاللبة وهو وسط الصدر والمنحر. و " لبب الرجل " جعل ثيابه في عنقه وصدره في الخصومة ثم قبضه وجره، وأخذ بتلبيبه كذلك.

أقول: بعد هـذا التوسع نصل إلى ما جاء في التهذيب للأزهري، قال: يقال: أخذ فلان بتلبيب فلان. وفي الحديث: فأخذت بتلبيبه وجررته.

ومن هـنا يتبين أن الكلمة استعمل مفردها ولم ير المعربون القدماء حاجة في الجمع؛ لأنه لا يدخل في خصوصية الدلالة، كما ورد في الشرح. ولكن المعاصرين لم يفهموا خصوصية الدلالة، وصرفوا الكلمة " مجموعة " إلى المعنى الذي بسطناه فجمعوا ما لم يعرف له جمع لانتفاء الحاجة إليه.

10- جـراثيـم

و " الجرثومة " : أصل كل شيء، وقيل: ما اجتمع من التراب في أصول الشجر. واستعملت على الوسع فقالوا: فلان طابت أرومته، وعزت جرثومته.

ولم يكن بهم حاجة إلى جمعه على جراثيم، وإن كان هـو القياس.

وقال المولوي السيد كرامت حسين الكنتوري الهندي في كتابه الذي أشرنا إليه وهو " فقه اللسان " : " جراثيم " أصلها " سراشيم " جمع " سرش " ، وهو عبراني بمعنى الأصل، وقريب منه " ضرس " في العربية، جمعوا " سرش " على قاعدة العبرانية، ثم أخذه العرب بإبدال السين جيما، والشين ثاء وجمع على الطريقة العبرية " الياء والميم " ، وحسب جمعا للجرثومة، ولكونها على صيغة منتهى الجموع وضعوا لها مفردا (انتهى كلام السيد المولوي) .

أقول : والذي في السريانية والآرامية هـو " شرش " للجذر من النبات [ ص: 160 ] والشجر، وما زال العامية الشامية تعرف هـذه الكلمة وكأن أهل الشام أدخلوها في عربيتهم الدارجة فجمعوها على " شروش " نظير " جذر وجذور " . وقد عرفتها الفصيحة المعاصرة في سورية ولبنان .

أقول أيضا: وقد صرف المعاصرون الجراثيم إلى مصطلح علمي يفيد الأحياء الصغيرة والطفيلية التي تولد الأمراض والآفات، وكأنها تعني ما يعنيه لفظ " مكروب " .

11- حـذافيـر

و " حذافير " الشيء: أعاليه ونواحيه.

قالوا: فإذا نحن بالحي قد جاءوا " بحذافيرهم " ، أي جميعهم.

أقول: وقالوا: المفرد " حذفور " أو " حذفار " .

وقولهم: إن المفرد إما هـذا وإما الآخر، يومئ إلى أنهم ولدوا هـذا المفرد، وليس له وجود في كلامهم، ولم نقف فيما بين أيدينا من نصوص على " الحذفور " أو " الحذفار " ، فهو شي مما ولدوه من الجمع، الذي فشا استعماله في كلامهم وأدبهم.

أقول أيضا: إن الحذافير تعني في استعمال المعاصرين الأشياء الصغيرة والدقيقة التي تدخل مع الأجزاء الكبيرة في شيء واحد.

وكنت قد أشرت في " أظافير " إلى رأي المولوي الكنتوري الذي ذهب فيه إلى أن " حذافير " أصلها " أظافير " بعد إبدال الحاء من الهمزة.

أقول أيضا: وقد يرد " حذاريف " على القلب في كلام الناس وهي ليست من الكلم الفصيح وستأتي مع جمهرة من الكلم العامي الدارج. [ ص: 161 ]

12- حـزاقيـل

و " الحزاقيل " : خشارة الناس، لا واحد لها.

13- خـراطيـن

و " الخراطين " : كما في لسان العرب (خرطن) : ديدان طوال تكون في طين الأنهار.

قال الأزهري: لا أحسبها عربية محضة، وربما كان أصل الكلمة أنهم رأوا ذلك الدود، يدب في البقاع الرطبة، ووجدوا من خير مميزاته أنه يخرأ الطين، فكأنهم قالوا: دود خرأ الطين، ثم بكثرة الاستعمال صار دود " خراطين " . . وبعد كونه كلاما واقعا صفة لموصوف، حذف الموصوف وأقيم مقامه الوصف. ولمشابهة وزنه صيغة منتهى الجموع، حسبوه لفظا واحدا جمعا. ولغرابة نشأة الكلمة، ولعدم الحاجة إلى ذكر واحد معين من تلك الديدان، أن ما وضعوا له مفردا.

أقول : وهذا يدخل في طائفة الجموع التي ارتجلت دون أن يكون لها مفرد.

قال المولوي السيد كرامت حسين الكنتوري في " فقه اللسان " : " خراطيم " مأخوذ من " خراطين " لمشابهة خراطيم الفيلة المتحركة بـ " الخراطين " وحسبوه جمعا لوجود الوزن. ولشدة الضرورة إلى استعماله مفردا وهو " خرطوم " ، ثم لكون الخرطوم أنفا مقدما للفيل أطلقوه على السيد الشريف المقدم على القوم، وعلى الخمر السريعة الإسكار، وأول ما يجري من العنب قبل أن يداس.

أقول: ومنه صاروا إلى الفعل " اخرنطم " وما اكتسب من دلالة تومئ إلى خرطوم الفيل.

14- خـلابيـس

و " خلابيس " : الإبل تروى فتذهب ذهابا شديدا فتعني راعيها، يقال: أكفيك الإبل وخلابيسها. [ ص: 162 ]

وقالوا : " الخلابيس " بمعنى الكذب، والواحد " خلبيس " ، وقيل: لا واحد لها. أقول: ويتجه الظن إلى افتعال " خلبيس " .

-15 خناطيل

و " الخناطيل " : صفة لـ " إبل " ، قالوا: إبل خناطيل أي متفرقة، وكأنهم ولدوا منه " خنطولة " مفردا ولكنها من صنع القياس على النظائر.

أقول : لقد قالوا في أحاديث إنها جمع أحدوثة ولكننا نجد الشائع الكثير أنها جمع حديث، ومنه " الحديث الشريف " الذي جمع على أحاديث. وكأن الأحدوثة على صلتها بالجمع بقيت معزولة في استعمالها الخاص، وهي من غير شك صنعت قياسا على نظائرها.

أقول: لم نقف على خنطولة في أدب الإبل، ولكن الخناطيل معروفة لدلالتها على صفة في الإبل هـي التفرق.

16- سـمـاديـر

و " السمادير " : هـو الشيء الذي يتراءى للإنسان من الشراب عند السكر وهو ضعف البصر، ومنه " اسمدر بصره " أي ضعف.

قال أدي شير في " الألفاظ الفارسية المعربة " : إنه تعريب " شمادير " .

أقول: ولما كانت الكلمة على صيغة الجمع حسبوها جمعا وهي في الأصل مفرد، وقد روعي اللفظ فيها وسنجد شيئا من هـذا.

17- شـعـاريـر

انظر " شعاليل " . [ ص: 163 ]

18- شـعاليـل

و " الشعاليل " في قولهم: ذهب القوم " شعاليل " مثل " شعارير " . وقالوا: لا واحد لها.

أقول: وقد جاء " شعلول " للفرقة من الناس، ولم يشيروا إلى أنه مفرد شعاليل.

19- شـمـاطيـط

و " الشماطيط " في قولهم: جاءت الخيل " شماطيط " و " شماليل " أي متفرقة، وقالوا: لا واحد لها مثل أبابيل وعبابيد. وقيل: شمطاط وشمطوط، وهذا من الكلم المصنوع وما أكثرة.

20- ضـغـابيـس

و " الضغابيس " للقثاء الصغار وقيل: أصول الثمام.

أقول: وليس " الضغبوس " مفردا لها، ذلك أن هـذا ينصرف إلى الأغصان التي تشبه " العرجون " . وقالوا: الضغبوس هـو الضعيف.

21- طحاريـر

. . طخـاريـر:

وكأنهما على الإبدال، وهما بمعنى، لقطع السحاب المتفرقة. وقالوا: واحدها طحرورة.

أقول: لم أقف على هـذا الواحد فيما يتصل بالسحاب والمطر. [ ص: 164 ]

22- عبابيـد

و " العبابيد " هـي الآكام، وهي الأشياء المتفرقة والبعيدة، وقالوا: لا واحد لها.

23 -فراديس

من الكلم الذي جاءنا على صيغة الجمع " فعاليل " وهو من " المعرب " الدخيل والأصل براديس من " الألفاظ " الفارسية، وقد حسبه العرب جمعا على التوهم، فاعملوا فيه نظرهم فصنعوا المفرد فقالوا: " فردوس " .

24- قلاقـل

و " القلاقل " جمع لما يتوهم مفرده، وهو " قلقلة " وليس هـو في الاستعمال وقد ورد في البيت المعروف لأبي الطيب :

وقلقت بالهم الذي قلقل الحشا     قلاقل هـم كلهن قلاقل

والبيت من سقطات الشاعر كما في كتب البلاغة.

25 - وجاء في التكملة 1 / 81 أن أهل اليمن يسمون الطبل " الجباجب " ولا مفرد له.

خاتمـة

هذا ما بدا لي، مما وقفت عليه، وهو أيضا مما يجتزأ به، وغيره معروف في العربية. [ ص: 165 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية