الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
في الدلالة أيضا

سأعرض في هـذا الفصل لجملة مواد من القرآن أخذتها لخصوصية في استعمالها على نحو لم يهدنا الاستقراء إلى ضبطه في النصوص الأخرى.

وليست هـذه الألفاظ التي عدتها دون العشرة هـي كل ما في كتاب الله من هـذه البدائع ذوات الأسرار اللطيفة العالية، التي لا يدركها القارئ بيسر. إن هـذه الألفاظ التي أشرنا إلى صفاتها الخاصة، كثيرة في كتاب الله، ولكني اجتزأت من هـذا المعين الثر بشيء اتخذه نماذج لهذه اللغة القويمة، التي أفرغت فيها الذات الإلهية شيئا من عظمتها، وقدرتها الخارقة. وها هـي على النحو الآتي: [ ص: 114 ]

1- الرؤيا والحلم

أقول: عرضت الأستاذة الدكتورة بنت الشاطئ إلى هـاتين المادتين في كتابها [1] (الإعجاز البياني للقرآن) فاستقرت الآيات التي وردت فيها لفظة (الأحلام) وهي ثلاث آيات. ويشهد سياقها بأنها الأضغاث المشوشة والهواجس المختلطة. وتأتي في المواضع الثلاثة بصيغة الجمع، دلالة على الخلط والتشويش لا يتميز فيه حلم عن آخر.

وأنا اجتزئ بآية من هـذه الآيات الثلاث وهي قوله تعالى: ( بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هـو شاعر * فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) (الأنبياء:5) .

أما الرؤيا فجاءت في القرآن سبع مرات، كلها في (الرؤيا) الصادقة، وهو لا يستعملها إلا بصيغة المفرد، دلالة على التمييز والوضوح والصفاء.

ومن بين المرات السبع، جاءت الرؤيا خمس مرات للأنبياء، فهي من صدق الإلهام القريب من الوحي. وأجتزئ من هـذه الآيات السبع بواحدة هـي رؤيا إبراهيم عليه السلام : ( وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ) (الصافات:104-105)

أقول إن هـذا الذي جاء في القرآن في مادة (الرؤيا) ودلالتها على الصدق في الآيات السبع. في حين أن (الأحلام) لم ترد إلا في الأضغاث المشوشة المختلطة الكاذبة، مما اهتدت إليهالأستاذة بنت الشاطئ - خصوصية معنوية اختصت بها لغة التنزيل العزيز، يحسن بنا أن نقف عندها لنرى أن العناية الإلهية أفرغت في هـذا الكتاب عربية قويمة عالية تتصف بالأصالة والحسن. [ ص: 115 ]

2 - آنس

وهذه كلمة أخرى أقتبسها من (الكتاب) نفسه.

جاء في قوله تعالى: ( إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هـدى ) (طه:10) .

وقد ورد هـذا الفعل في خمس آيات أخرى موزعة في سور القرآن الكريم.

وفي معجمات العربية أن : آنس الشيء أبصره، والصوت سمعه، واستأنس: استأذن.

تقول الأستاذة بنت الشاطئ: نستقري الاستعمال القرآني، فيعطينا حس العربية المرهف، لا تقول (آنس) في الشيء تبصره أو تسمعه، دون أن تجد فيه أنسا. فإذا قال العربي الأصيل: آنست، فقد رأى أو سمع ما يؤنسه.

وليس الإيناس في الآيات الخمس مجرد إبصار لظواهر الرشد المادية الحسية في سن البلوغ، ولكنه الطمأنينة المؤنسة بالابتلاء والامتحان، إلى أنهم قد رشدوا حقا.

وكذلك (الاستئناس) في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ) (النور:27) .

وليس الاستئناس مجرد استئذان كما وهم الذين فسروه بذلك، وإنما هـو حس الإيناس لأهل البيت قبل دخوله.

أقول: وهذا الذي اهتدت إليه بنت الشاطئ من بديع لغة القرآن في إفراغ الخصوصية المعنوية. وأريد أن أضيف شيئا يتصل بهذه المادة الغنية فأقول: إن (الأنس) مصدر معروف، منه جاء الفعل (آنس) كما أشرنا وأشارت الباحثة الفاضلة. غير أن أصل (الأنس) في العربية وفي غيرها من اللغات التي [ ص: 116 ] تتصل بها بأرومة النسب، هـو (الإنس) أو (الإنسان) أي الرجل أو المخلوق الذي يتصل بغيره من الأناسي. ومن (الإنس) أو (الإنسان) جاء المصدر وهو اسم معنى ثم توزع في هـذه الخصوصيات الدلالية. ومثل هـذا أو شيء منه، حصل في تلك اللغات التي أشرنا إليها.

3 - بشـر

وردت كلمة (بشر) في لغة التنزيل سبعا وثلاثين مرة في آيات مختلفات. وقد وقفت على هـذه الآيات فوجدت (البشر) فيها هـو المخلوق الضعيف أزاء الخالق القوي الكبير:

( بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) (المائدة:18) .

ثم إن (البشر) متساوون في أنهم ضعاف أمام الخالق، وأنهم هـم والأنبياء سواء من حيث إنهم جميعا خلق الله، سوى أن الأنبياء والرسل قد أوحي إليهم فكلفوا ببينات ورسالات.

قال تعالى: ( ما هـذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ) (المؤمنون:33) .

قلت: إن النبي صاحب بينة أو رسالة وإنه ممن اصطفاه الله لأمر من الأمور - جلت عظمته.، وقد أدرك الناس هـذه الحقيقة.

قال تعالى: ( ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين ) (الشعراء:154) . وقال تعالى أيضا:

( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ) (الكهف:110) .

فالرسول والنبي من البشر خص بالوحي والرسالة والبينة. وقد فهم الخلق أن الأنبياء منهم: ( فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله ) (التغابن:6) . [ ص: 117 ]

إن هـذا (البشر) من هـذه الأرض، خلق منها، وعليها درج، وإليها يعود:

( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ) (الروم:20)

( وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ .. ) (الحجر:28)

أقول : وفي هـذا القدر من الآيات الكريمة كفاية أخلص منها لأقرر أن (البشر) في (القرآن) ، من الكلم القرآني، فلم أجده في الشعر الجاهلي مما بين أيدينا من نصوصه الوافرة.

ثم إني أحس أن (البشر) يعني في أول إطلاقه (الهالك أو الفاني) ، الذي لم يرزق البقاء والخلود، بالنظر إلى الذات الإلهية العلية الباقية الخالدة.

ويحسن بي أن أرجع إلى أصل هـذه المادة فأجد (البشرة) بفتحتين وهي أعلى جلدة الرأس والوجه والجسد من الإنسان وهي التي عليها الشعر، وهذا يعني أنها ظاهر الجلد.

إن هـذه المادة التي تصرفت بها العربية، فجاء الفعل (بشر) ، أي انطلقت وانبسطت بشرته إعرابا عن الارتياح، ومنها البشارة والتباشير، وبشرت الشجرة وغيرها كثير. ألا ترى أن هـذه المادة تعني أن (البشرة) شيء فان، وأنه لا بد من هـرم، فعجز، فموت، ومن هـنا سمي بها المخلوق الفاني، أي الإنسان، فكان (بشرا) أي هـالكا وفانيا.

وأكتفي بهذا القدر من النظر في هـذه المادة القرآنية التي أعانني كلام الله جلت عظمته على فهمها وإدراكها، عصمني الله من الخطأ والسهو.

4 - بصر وسـمع

استعملت كلمة (البصر) مصدرا ثماني مرات في ثماني آيات منها: ( وما أمر الساعة إلا كلمح البصر ) (النحل:77) ، وكلها بصيغة المفرد. [ ص: 118 ]

ولكننا حيثما وجدنا (البصر) مع (السمع) في آيات أخرى، جمع (البصر) على أبصار) وبقي (السمع) مفردا وذلك في أربع آيات منها: ( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) (النحل:78)

وقد شذت واحدة عن هـذا النمط هـي: ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء:36)

على أننا لا نجد (السمع) مجموعا على (أسماع) وهي تجاور (الأبصار) . وهذا بعض خصوصيات هـذه اللغة الرفيعة.

5 - عـين

وردت (العين) في عشر آيات مجموعة على (عيون) وكلها تعني (عيون الماء) في الكلام على الجنة ونعيمها، منها: ( إن المتقين في جنات وعيون ) (الحجر:45) .

وقد ورد في اثنتين وعشرين آية مجموعة على (أعين) للدلالة على (الأعين) المبصرة، وهي أصل المعنى في هـذه الكلمة، ومنها توزعت مجازا واتساعا، ومن هـذه الآيات: ( ولهم أعين لا يبصرون بها ) (الأعراف:179) .

أقول : إن هـذا التوزيع في اختيار أبنية الجمع، لاختلاف الدلالة، شيء من خصائص هـذه اللغة الكريمة، مما لا نعرفه في النصوص الأخرى.

6 - غيث

وردت الغيث في ثلاث آيات منها: ( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته ) (الشورى:28) كلها يشير إلى أن المراد الرحمة والخير، وهذا يعني أن (المطر) قد استعمل استعمالا آخر في الشر والعذاب كما سنرى. [ ص: 119 ]

ومن (الغيث) هـذا، جاء الفعل غاث وأغاث واستغاث والمصدر الغوث، وكلها يعني الرحمة والمساعدة. وهذا بعض خصائص لغة القرآن في اختيار لفظ دون آخر.

7 - قـصـد

استعملت مادة (القصد) الثلاثية ثلاث مرات، في ثلاث آيات، فعل أمر في واحدة (اقصد) ، ومصدرا هـو (قصد) ، واسم فاعل هـو (قاصد) ، وهذه الثالثة هـي موضوعنا في الكلام عليها:

( لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة ) (التوبة:42)

أقول: ذكر الزمخشري في (الكشاف) ، أن السفر (القاصد) ، هـو الوسط المقارب، وجاء في (لسان العرب) : وسفر قاصد، هـو السهل القريب.

أقول: كان الدكتور مصطفى جواد يشير إلى خطأ استعمال المعربين كلمة (مباشر) في قولهم: (بصورة مباشرة) ، وكان يرى أن يقال: بصورة قاصدة. وعندي أنه توسع في فهم (القصد) للوصول إلى هـذا المعنى في اللغة المعاصرة.

8 - مـطـر

وردت كلمة (مطر) وهي مصدر، في سبع آيات، كما وردت فعلا في سبع آيات أخرى، وفي آية واحدة، جاءت اسم فاعل (ممطر) من الرباعي. وكلها ينصرف إلى العذاب والنذر بالشر ومنها:

( وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين ) (الشعراء:173)

( وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ) (الحجر:74)

قلت: لقد فرقت لغة التنزيل العزيز بين المطر والغيث، فكان المطر عذابا وشرا ونذرا بالويل والثبور، وكان الغيث رحمة وخيرا ونعما.

هذه جملة مواد آثرت أن أضعها نماذج لهذه اللغة الكريمة، وكيف انصرفت لدلالات تملك من خصوصية المعنى، ما لم نره في غيرها من النصوص العربية. [ ص: 120 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية