الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
خـاتـمـة

وبعد.. فلا بد لي في هـذه " الخاتمة " أن أعود إلى " مجمع البحرين " فأقول: إنه كتاب في " المقامات " اشتمل على ستين " مقامة " ، عرف كل منها باسم منسوب إلى بلد من البلدان العربية في الغالب، وقد يكون فيها ما نسب إلى غير ذلك.

و " المقامة " كما هـو معروف، ضرب من الكتابة العربية القديمة ابتدعها أصحابها في العصر العباسي، وألبسوها لونا من الحكاية، وقد اختار كل واحد من أصحاب المقامات راويا متحدثا يحدث عن نفسه وعن غيره. وكان الغرض من " المقامات " أن يعرض صاحبها في كل منها " لمجموع لفيف " من اللغة وأوابدها، وفرائدها، وطائفة من أمثالها، وما جاء في أسرار ألفاظها، وكيف كان من أصولها، ولا تعدم أن تجد إشارات نحوية، وصرفية، وبلاغية، وعروضية، ونحو ذلك من المعارف اللغوية والتاريخية وغيرها.

وصاحب المقامة يحكم العرض لهذه المسائل، وإنك لتقرؤها فلا تراه متعسفا محمولا على ما يريد بقسوة وشدة، وهذا يعني أن المواد اللغوية وما يتصل بالمعارف الأخرى تأتي وكأنها غير مقصودة لذواتها. والقارئ يقبل عليها ولا يمل مما حفلت به من أسجاع وفواصل، هـي خصيصة من خصائص هـذا الفن القديم.

ولنرجع إلى " مجمع البحرين " الذي أراد له صاحبه اليازجي أن يكون وعاء لجملة هـذه المعارف اللغوية القديمة، وكان في طوقه أن يكتب مقاماته على نحو ما كتب المتقدمون من أصحاب المقامات.

غير أن اليازجي ربما آمن أن " المقامة " محتاجة إلى نمط من الكلام البليغ، مع التزامه بالتقسيم القائم على الفواصل المنظومة، في تناسبها وأسجاعها. وهذا [ ص: 136 ] النمط من بليغ الكلام، لا يؤديه المثل القديم، والعبارة المأثورة المسجوعة، والرجز المحبب ذو النغم الراقص، ولكنه محتاج، بل مفتقر، إلى هـذا العذب النمير الذي ينساب من الكلم الشريف، مما يعمر به كتاب الله وسنة نبيه الكريم. ومن أجل ذلك سعى اليازجي إلى الإفادة من لغة التنزيل العزيز، عارفا وجه الإفادة، مهتديا إلى الطريق إليها، فكان له ما أراد.

وقد التزم بهذا، وقد كان له أن يأتي بمقاماته من غير أن يكون منه هـذا الالتزام بالكلم الشريف، ولعل هـذا يدعوني إلى أن أفترض افتراضا مفتقرا إلى أن يكون شيئا مقررا مؤيدا، وهو أن اليازجي قد أحب هـذا الأدب السماوي، بل آمن به، ولولا (عيسوية) وصف بها نفسه في " فاتحة مجمع البحرين " ، لكان غير اليازجي اللبناني، ولقلت أسلم قلبا، وتنصر ظاهرا، بسبب ما كان من ظروف قاهرات.

قد يكون شيء من هـذا!!

وأنا أخلص من هـذا العرض إلى أن العربية مقترنة بالإسلام، وليس لعربية أخرى من وجود أدبي تاريخي فني، إذا انسلخت من هـذا الذي طبعت عليه، فكان منها قلبا وقالبا. [ ص: 137 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية