بين العربية الفصحى و «الحداثة»
تتصل الحداثة بالتغريب اتصالا وثيقا؛ لأنها تجد في تغريب [1] المجتمعات العربية الإسلامية، أصلا من أصولها الفكرية وجذرا من جذورها السياسية. وقد تعامى كثير من المثقفين العرب «المستغربين» عن الاختلاف بين ثقافة العرب، التي لها أصولها وجذورها وظروف نشأتها، وثقافة الغرب التي هـي نتاج للفلسفة الغربية خلال ثلاثمائة عام من تطورها، والاختلاف بين مقولات ولدت من رحم الحداثة الغربية وجاءت نتاج ثقافة غربية خالصة، وبين مقولات هـي من صلب الحضارة الإسلامية، وخلطوا بين «التحديث» و «الحداثة» [2] ، بل منهم من أشفق على الحداثة في بعض أقطار العالم العربي، عندما «لاحظ» أنها في سياق التحولات الجارية تواجه عوائق عدة، منها «ضعف المجتمع المدني» و «الطبيعة الاستبدادية للسلطة» و «نقص المهارة التقنية» و «الوقوف في وجه كل محاولة لفصل الدولة عن الدين» [3] [ ص: 65 ]
و منهم من ادعى النزاهة في النظر إلى «الحداثة»، والموضوعية في البحث في جذورها التاريخية في الثقافة والأدب العربيين، ذاهبا إلى أنها أحدثت «صدمة» في جسم هـذه الثقافة، وتصادما بين تيارين [4]
ومنهم من توسط فرأى أنه لا توجد حداثة مطلقة كلية عالمية، بل الحداثة «حداثات» مختلفة باختلاف الزمان والمكان والتجربة، ومشروطة بظروفها، ولذلك ينبغي مراعاة أثر «الخاص» في الثقافة العربية المعاصرة، وهو الأثر الذي يجعل من هـذه الحداثة «حداثة عربية» [5] ؛ لأن النسخة العربية التي نقلت النتائج الأخيرة للفكر الغربي لم تراع أن لكل فكر مقدماته المنطقية، واستخدمت مصطلحات جمعت بين غرابة الاشتقاق وغربة النقل إلى «لغة» جديدة. ورأى هـذا التيار أننا بحاجة إلى « حداثة حقيقية تهز الجمود وتدمر التخلف وتحقق الاستنارة، لكنها يجب أن تكون حداثتنا نحن، وليست نسخة شائهة من الحداثة الغربية» [6]
وهناك موقف ثالث من الحداثة، يتميز عن سابقيه بنقد الأسس التي قامت عليها الحداثة الغربية خصوصا، والحضارة الغربية على وجه العموم، [ ص: 66 ] فهي حضارة تقوم على «العقلانية» وتفتقر إلى «الأخلاقية» [7] ، وصار راسخا في الأذهان بوساطة السيل الجارف مما تحمله هـذه الحضارة الحديثة من أقوال وأفعال، أن الأخلاق لا تخدم إلا الضعف في النفس والخذلان في السلوك، فينبغي إعادة صياغة هـذه الحضارة بتسديدها بالأسس الأخلاقية، حتى تهتدي إلى معرفة المقاصد النافعة، وإسنادها بسند المرجعية العربية الإسلامية، التي تحمي الثوابت من صدمة الاهتزاز، والذات من الذوبان.
ويتصل بالحداثة في العلوم الإنسانية، المناهج اللسانية الغربية التي طبقت على اللغة العربية وعلى النصوص الأدبية في حماس شديد، وذلك بغية الوصول إلى تحقيق «علمية» الدراسة اللغوية، والوصول إلى «إنارة» النص الأدبي، والذي حصل بعد ذلك هـو أنه بدلا من «وصف بنية اللغة» على المستوى اللغوي، و «تقريب النص إلى القارئ» على المستوى النقدي، حجبت عنا هـذه المناهج المستعارة النص الأدبي، بمصطلحاتها النقدية المترجمة والمنقولة والمنحوتة والمحرفة، وأبعدت عنا المعنى، فكان الفشل نصيبها من عملية تحقيق الدلالة؛ لأن غالبية اللسانيين العرب مالوا إلى البحث [ ص: 67 ] عن «آلية الدلالة، ونسوا ماهية الدلالة» [8] ، والغريب أن «المشروع البنيوي» الذي تغلغل في واقعنا الثقافي، لم يشرع في الظهور على الساحة النقدية واللسانية العربية إلا بعد أفول نجمه في بلاد نشأته وإعلان إفلاسه.
وإذا كانت الحداثة «موقفا مغايرا»، و «تمردا على الذات»، و «خروجا عن المتعارف المألوف» واستجابة تلقائية لنظم التحديث السائدة، وحالة أصابت الحياة العربية المعاصرة في كل جوانبها، فغيرت نمط العيش وطرق التفكير، فإن اللغة العربية لم تستثن من هـذا التغيير الجارف؛ فهجرت ألفاظ واستحدثت أخرى، بقياس وبغير قياس، بل هـجرت العربية الفصحى في ميدان العلوم المعاصرة والثقافة الحديثة الوافدة، وعدت الفصاحة - التي هـي من صفات القرآن والحديث- ضربا من الافتنان في القول لا صلة له بالواقع، و سلطة في وجه تحديث اللغة، وعائقا في طريق تطويرها، ومظهرا من مظاهر الاستبداد بها [9] ، ولم يكن للغة بد من تحديثها وذلك بإنشاء «فصاحة جديدة» تخرق قواعد «الفصاحة القديمة»، وذلك بإدراج لغة الصحافة، وهو ما دعاه الباحثون بـ «فصاحة الحدث الصحفي»، حيث أشادوا «بالأسلوب السهل المشرق» الذي طرأ على العربية اليوم، ورجعوا «الفضل» فيه إلى الصحافة دون غيرها من وسائل نشر اللغة وتعليمها [10] ، معللين الحاجة إلى مثل هـذا الأسلوب الجديد، بأن قواعد الفصحى النحوية والصرفية والمعجمية قد رمت عظامها، وزال ظلها، وحال لونها، وحان تحديثها.
وهكذا أصبحت العربية اليوم تعاني في ظل الحداثة غربة قاسية تضاف [ ص: 68 ] إلى ملف غربتها الثقيل. ويشهد تاريخها القديم وواقعها من بين لغات العالم اليوم، أنها قادرة على تحقيق النمو والاتصال، والتعبير عن المعلومات الحديثة، ومواكبة التطور الجديد في الميادين المختلفة، ويمكن أن يكون لها أثر بارز في «تحديث العقل العربي» وتحقيق «التنوير» الذي يرفعه المثقفون «الحداثيون» شعارا من شـعارات المرحـلة الجديدة، وباطل ما يدعون من أن هـذه اللغة لا قدرة لها على الإسهام في «الحركة الدلالية والتعبيرية الحديثة».