الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
- التعريب

أما إذا تعذر وضع لفظ عربي سليم مناسب يؤدي مفهوم المصطلح الأجنبي بأي من الوسـائل السـابقة -لا تقصيا من التراث، ولا مجـازا، أو اشتقاقا- وهو واقع لا يستطيع العارف بآفاق العلم والتقانات إنكاره، فيصار فيه إلى «التعريب».

والتعريب الذي أقصده ليس «التعريب» الذي هـو مطلبنا إثر استبدال لغات أجنبية باللغة العربية في تدريس الطب والهندسة ومواد العلوم الأخرى في معظم أرجاء الوطن العربي، بل ما أعنيه هـنا هـو «التعريب» بمفهومي الترجمة والاقتراض خاصة. [ ص: 112 ]

في الواقع، «التعريب» بمفهومي الترجمة والاقتراض، يلخص قضيتنا مع المعارف الحضارية المتجددة ومصطلحاتها اليوم، كما عبر تاريخ العربية الطويل، هـكذا كان على مدى تاريخ اللغات في صراعها مع الحضارات، وهكذا هـو اليوم.

والعربية ما شذت يوما عن هـذا رغم ما يبديه بعضهم من التخوف على جوهر العربية وجلالها من تعريب الاقتراض. طبعا العرب، قبل الإسلام وبعده، عبر احتكاكهم بالحضارات المختلفة، اكتسبوا من الحضارات الأخرى وأكسبوها معارف وأفكارا في مختلف مناحي الحياة بحصيلتهم اللغوية الذاتية؛ ولكنهم أيضا اكتسبوا من الحضارات الأخرى معارف وأفكارا في مختلف مناحي الحياة مع مقترضات لغوية زادت من ثراء لغتهم ومن قوتها التعبيرية في مجال المعارف المكتسبة وغيره من المجالات.

وهكذا اكتسبت اللغة العربية مئات الألفاظ الدخيلة التي هـضمتها في كتبها وآدابها حتى ليبدو الكثير منها مثل: أستاذ، وبخور، ودواة، وقلم، وسيف، وصراط، وقنديل، وكوفية، ومسك، ويم... وغيرها، عربي النجار أكثر من كثير من الألفاظ العربية العريقة الحسب والنسب.

هذا التعريب، أو ما وصفناه سالفا بالتعريب الاقتراضي، لم يرهب العلماء العرب، الذين كانوا يريدون العربية لغة لأهل العلم كما هـي لغة للعموم. فالذي يراجع كتب المفردات، يجد، كما يخبـرنا الدكتور إبراهيم ابن مراد رئيس جمعية المعجمية العربية بتونس حاليا، أن نسبة الألفاظ المعربة في كتاب «الجامع لابن البيطار » تؤلف 46% من مفرداته، وفي «كتاب الأدوية المفردة لأبي جعفر الغافقي » حوالي 65%.. أولئك العلماء لم يخلطوا [ ص: 113 ] بين ما هـو من صلب اللغة، أو ما يتوقعون صيرورته من صلب اللغة؛ كون أهل اللغة كلهم يشتركون فيه، وبين ما هـو لغة لأهل العلم خاصة؛ فعربوا ببالغ الحرص والانتقائية في الأول، حتى لتكاد تغفل عن كونه معربا، في حين عربوا بلا تحفظ في الآخر.

وقد نسـج رواد النهضة الحديثة في غالبيتهم على مـنوال القدماء في توليد المصطلحات، فعربوا، ترجمة، المصطلحات التي يحتاج فهمها وفهم مدلولها العلمي إلى فهم أصلها ومعناها اللغوي، بخاصة تلك المصطلحات التي تفرض نفسها على التداول الشعبي، لا في مجالات العلم فقط، بل في مختلف مجالات الحياة.

وعربوا اقتراضيا، في جو من الاعتراضات يخفت حينا ويشتد حينا، في ما سوى ذلك من أسماء كيماويات جديدة وأسماء أجناس وأنواع ومصطلحات عالية التخصص في الهندسة والكهرباء والإلكترونيات. وكل فئة من هـذه تعد بالملايين.

والجدير بالذكر أن هـذه الملايين من الألفاظ لا يدخل منها عادة إلى صلب أي لغة إلا القليل القليل مما يشيع استخدامه في الحياة اليومية. والشاهد على ذلك أن معجم «وبستر» الدولي الثالث الذي يستغرق اللغة الإنكليزية في قرابة نصف مليون مدخل لا يورد من ملايين هـذه المصطلحات المتخصصة سوى بضعة آلاف.

ومهما تكن وسيلتنا إلى المصطلح - عودا إلى التراث، أو الارتجال مجازا، أو الاشتقاق قياسا، أو النحت تركيبا، فالمواصفات المصطلحية السليمة تقتضي الدقة الفائقة في أن يحمل المصطلح مفهوم مدلوله، ويوافقه [ ص: 114 ] معـنى وبنية؛ وهذا يتطـلب، بادئ ذي بدء، أن يسـتوعب المصـطلح أو المصطلحون مفهوم المصطلح لغويا وموضوعيا قبل أن ينقلوه لنا من لغته الأصلية إلى العربية.

والدقة المصطلحية تفترض أن يكون لكل مدلول دال خاص، فلا يعبر عن المعنى الواحد بمصطلحين –كل مصطلح منهما ذو دلالة مختلفة في القطر نفسه أو في أقطار مختلفة.

ونحن لا نتساهل أيضا في أن يكون للمصطلح الأجنبي مرادفات تصلح في الواقع مردافات لمصطلحات أخر ذات مفهوم مختلف علميا.

الدقة المصطلحية تقتضي أن يحدد أو يصاغ مصطلح عربي مميز خاص لكل مصطلح أجنبي بعد تحري الدلالة العلمية الدقيقة لكل واحد منها، وانتقاء اللفظ العربي العلمي الذي يقابلها. ويحسن عند انتقاء مصطلحات من هـذا القبيل أن تجمع كل الألفاظ ذات المعاني القريبة أو المتشابهة الدلالة وتعالج كمجموعة واحدة.

إن وضع المصـطلحات سيظل مدة طويلة من الزمن من عمل الأفراد، يعني من مسئولية المصطلحيين، لا من عمل المجامع اللغوية نفسها، التي سيبقى لها دور الإشراف والإقرار والفرز والاستبعاد أو التأييد وتهيئة أسباب الانتشار في الوطن العربي.

إن تحديد المنهجية جيد، ولكنه ليس أكثر من التصميم الممتاز للمبنى الذي يعتمد تنفيذه وتطبيقه على البناء.

ينظر البعض أن المؤسسات التي تضطلع بوضع المصطلحات من مجامع واتحادات، كما الخبراء المصطلحيين، لا يتبعون منهجية علمية واحدة في [ ص: 115 ] وضع المصطلحات، لذا فإن مصطلحاتهم تختلف في ما بينها.. والواقع هـو خلاف ذلك.

إن مهنة المصطلحي، لـما تتحدد معالمها في العالم العربي؛ فليس هـنالك برامج متعارفة، ولا طرق تأهيل محددة ومرسومة، لإعداد المتخصصين في المصطلح والشئون المصطلحية.. ومعظم، أو ربما كل المتخصصين الذين أعرفهم، تعلمـوا المهنة بجهودهم وإمكاناتـهم الشـخصية، ولم يدرسوها كعلم، إنما توافرت لهم خلفيات دراسية تثقيفية علمية ولغوية ساعدت في هـذا التأهيل.

لكن مهما يختلف المنظرون في تقنيات المصطلحية ومنجهياتها ومناهجها ومساقاتها، فهنالك أساسيات لا خلاف فيها لما يمكن اعتباره بعض مؤهلات المصطلحي قبل الورق والقلم وقنينة الحبر، حتى وبضعة القواميس.. وهي، في جوهرها لا تختلف كثيرا عن المتطلبات الأساسية لأعمال الترجمة العلمية والتقانية الناجحة.

ولعله يمكن تلخيص هـذه المتطلبات في أساسيات خمس.

أولا: معرفة دقيقة بلغتي التعامل؛ لغة الأصل ولغة الهدف.. فقديما قالوا: صاحب الترجمة ينبغي أن يكون ذا علم واف باللغتين.

ثانيا: إلمام كاف بمادة الموضوع؛ ويركزون اليوم على المصطلحي الواسع طيف التخصص، وليس بالضرورة المتخصص في الموضوع نفسه. [ ص: 116 ]

ثالثا: خبرة عملية بالمنهجية المصطلحية؛ مدعمة بالتراث المصطلحي القديم والحديث، وتعرف المشهور منه، على الأقل في مجال الموضوع مدار البحث، واستيعابه واكتناه قواعد ووسائل اشتقاقه، والتدرب على تطبيقات عملية في الصياغة المصطلحية.

رابعا: موهبة؛ عمادها ذكاء مدرب يمكن من ملء الثغرات في النص الأصلي، وخيال واسع يمكن من تصور العدة أو الشيء أو العملية موضع البحث، ومقدرة سليقية تمكن المصطلح من التعامل مع اللفظ في سياقه بوضوح وإيجاز ودقة.

خامسا: دراية وبصيرة توجهان الاختيار؛ لانتقاء المرادف المصطلحي الأنسـب من التراث أو المعاجـم ذات العـلاقة أو الكتابات المنشـورة حول الموضوع.

لقد أضحى علم المصطلح اليوم كما سائر المهارات ذات المسئولية، دراسة تخصصية تتطلب، حتى فوق كل ما أسلفت، قابلية شخصية، ومرونة لغوية، وسعة أفق، وصبرا، وأناة، وحبا عميقا للغة التي يصطلح فيها.

لقد عرفت العربية مصطلحيين أفذاذا تحققت فيهم هـذه المواصفات والخصائص الذاتية والمكتسبة؛ علما ومنهجية وقابلية، فأثروا اللغة بأعمالهم.

لكنا بحاجة، لا إلى أفراد يبرزون على فترات وفي بعض ميادين فقط، بل إلى كتائب فاعلة منهم في كل ميدان، عدة أنية ومستقبلية للحاق بالركب الحضاري المتسارع ومواكبته. [ ص: 117 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية