الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
بين العربية الفصحى والعامية

هل تمتلك العاميات والدوارج قواعد أو نظاما كما تمتلكه العربية الفصحى؟ الجواب أنها لا تمتلك القواعد النظامية التي تنظم الأبنية والأصوات والتراكيب والمعاني؛ فهي قد اختصرت القواعد واختزلتها، واستغنت ببعض الصيغ عن بعض توخيا للسهولة التي تتفق والعاميات وتناسبها، ومن الأمثلة على ذلك أن قاعدة المبني للمجهول لا وجود لها في الدوارج والعاميات؛ فقد قنعت هـذه اللغيات ببدل من ذلك يتجلى في فعل المطاوعة، فلا تسـتعمل الفعل «ضرب» مـثلا ولكنها تقـول «انضرب» أو «اتضرب»، ولا يعد هـذا الاستبدال ميلا إلى قواعد جديدة ولكنه يتعلق بالتخلي عن قوانين العربية في الإعراب والصرف، وقد حملها هـذا التخلي، على اتخاذ المبتدأ بدلا من الفاعل المظهر لئلا يقع اشتباه بين كلمات الجملة؛ فهي لا تستطيع أن تقول «ضرب محمد زيد» لأنها لا تستعمل حركات الإعراب التي هـي في الأصل واقعة على أواخر الكلم ومائزة بين المعاني، وقد تخلصت من هـذا الاشتباه بتقديم الفاعل على الفعل فأصبح مبتدأ، وذلك نحو «محمد ضرب زيد»، وليس المبتدأ إلا بابا في العربية، أما في العامية الدارجة فهو الباب الوحيد تقريبا. [ ص: 69 ]

وقد حمل العامية على الاكتفاء بالجملة الاسمية التي خبرها فعل، عن الجملة الفعلية فقدان الإعراب [1] ، فهي لهجة أو لغية عفوية عشواء، تقتات على مائدة الفصحى ولغات المستعمرين المترسبة في بلداننا، وتفتقر إلى كل شروط الدقة والإحكام، ولا يصح في المنطق وطبائع الأشياء أن تكون العامية أول ما يتلقاه الطفل؛ لأنه إذا لقنها ابتداء فسيتكون له سند هـش ينظر به إلى العالم وبه يفكر ويعبر، فيكون ضحل الفكر ضعيف التصور قاصر النظر، لا ينتج علما ولا معرفة، ولا قدرة له على التنظير والتخطيط؛ لأنه لن يرى من الأشياء إلا ما تريه إياه اللهجات والدوارج، ولن يدرك العالم إلا على الهيئة المضطربة المفككة التي تتبادر إلى ذهن هـذه الدوارج.

وهو بعد ذلك، إذا تعلم لغة ذات نظام وقواعد مطردة، فيما بعد، فسينـزلها في نفسه وفكره على ذلك السند الهش، الذي هـو العامية والدوارج واللهجات المحلية، أي أن هـذه الأخيرة ستكون له أرضا وسندا، تستقر عليها الفصحى ويستقر عليها كل ما تحمله الفصحى من قيم فكرية واجتماعية وعقدية... وستكون النتيجة معروفة وهي أن تكون الدوارج [ ص: 70 ] والعاميات معبرا وجسرا إلى العربية الفصحى، وسيتأثر بها في تعلم الفصحى، ولن تستقيم له أية لغة تعلمها فيما بعد، على خلاف ما إذا تلقى اللغة العربية الفصيحة ابتداء؛ لأنها ستنشئ له رصيدا من القواعد الصحيحة المبنية بناء محكما، ونمطا رفيع المستوى [2] .

وقد أخبر اللغوي الغربي «آدم كزيفسكي» [3] أن كثيرا من الأخطاء التي يرتكبها التلميذ في بدايات تعلمه للغة ثانية راجعة إلى ميله إلى قياس تراكيب اللغة الثانية على تراكيب اللغة الأم، وفي ذلك تحكيم لبنيات اللغة الأولى في تركيب اللغة الثانية وبنائها ووقوع في كثير من الأخطاء في إنجاز [ ص: 71 ] جمل الثانية، وتفسيـر ذلك أن التلميذ يلجأ إلى لغته الأم ليستمد منها كلما عجز عن التعبير باللغة الثانية، فيحصل التداخل والخلط.

وهذا أمر مقرر في اللسانيات، فمن المعروف أن الطفل يتعلم لغته الأم بإتقان ويكتسبها بسهولة وسرعة؛ لأنه مزود بآليات نفسية مركوزة في طبعه، تمكنه من سرعة الاكتساب، ولكنه لا يفعل ذلك إلا بتوجيه الآباء والمدرسين وعموم البيئة التربوية والاجتماعية التي توطن الطفل على تركيب الجمل الصحيحة وتجنب اللحن في الكلام، وتعمل على انطلاق عملية نمو اللغة في نفسه انطلاقا صحيحا، وذلك بوضع المناهج المناسبة، واختصار الطرق المفضية إلى سرعة التعلم الصحيح [4] .

والغريب أن الطفل أصبح عرضة للتجارب التربوية التي تحرص على شحنه بأكبر قدر ممكن من المواد الدراسية، ومنها اللغات الأجنبية، في بداية تلقيه للمعرفة، أي قبل الأوان، كما هـو الحال في بعض البلاد العربية، وترتب عن شحن «جدول الزمان الأسبوعي» التخفيض من ساعات بعض المواد اللغوية الأساسية كاللغة العربية. وشـحن التلميذ المبتـدئ بكثير من المواد تسرع منهجي وعجلة ممقوتة قد تأتي بنقيض المقاصد المسطرة، وهذا أمر يعارض مبادئ اللقانة[5] السليمة. [ ص: 72 ]

والصواب أن يلقن الطفل اللغة الفصيحة منذ بداية نطقه، وذلك لتمكينه من بناء قواعد مجردة عامة تساعده على تعلم لغـات أخرى ومواد أخرى، أما اللهجات والدوارج فإنها لا تملك القواعد، ولا يستطيع الطفل أن يبني منها في نفسه قواعد مجردة تمكنه من تعلم اللغة الفصحى أو تعلم لغة أجنبية.

وأعود فأقول: إن وجود العاميات والدوارج أمر طبيعي، ولا يوجد صراع بين العربية الأم ولهجاتها المتعددة؛ لأن تعدد اللهجات في ظل لغة أم ظاهرة طبيعية مألوفة في واقع الحياة وطبائع الأشياء، ولكن الخلل في تحويل اللهجات العامية إلى سلاح ضد العربية الفصحى، وهو ما اصطنعه الاستعمار، عندما استغل اختلاف اللهجات الإقليمية ليجد ذريعة للقضاء على اللغة المشتركة التي تصل بين أجزاء الأمة وتشد بعضها ببعض في منهج التعلم هـو أن تكون الدوارج أول ما يتلقاه الطفل، وأول ما يفتح عليه عينيه فيبني منه مقاييسه اللغوية الأولى. ويترتب على ذلك ترسخ هـذه المقاييس الهشة المتهافتة وترسبها في ملكة الطفل اللغوية، وتأثيرها في تعلم اللغة الفصيحة.

والحصيلة، أن تصاب هـذه الفصيحة بالركاكة والضعف في التركيب والأبنية والمعجم والدلالة، وباللحن والإحالة في النطق وتعثر اللسان في التلفظ؛ وما ذلك إلا لأن الطفل يصدر في الكلام عن مخزون لغوي مشوه، لا يستقيم له نسق في التركيب ولا بيان في العبارة ولا وضوح في الدلالة والمقاصد؛ لأنه كلما هـم بالأداء اللغوي الفصيح اعترضت طريقه اللكنة العامية والعجمة واللهجات المحلية، أو إن شئت فقل إنه كلما هـم بالكلام العربي الفصيح قفز إلى لسانه خليط من الفصحى واللهجات المحلية فيتكلم ببعض العبارات الفصيحة التي هـي عبارة عن جزر متباعدة في نفسه، يتخللها كل ما ليس [ ص: 73 ] بفصيح، ويملأ الفراغات التعبيرية والقوالب اللغوية الفارغة بالكثرة الكاثرة من الألفاظ العامية التي أغرق في خضمها وهو ينمو ويتلقى لغته.

و هـناك عيب منهجي آخر، وهو انتشار الدعوة إلى اتخاذ اللهجات الدارجة والعاميات في الوطن العربي بدلا من العربية الفصحى، وذلك قياسا على الأوربيين الذين يتخذون اللغة المنطوقة بدلا من اللغة التقليدية المكتوبة، وتقليدا لهم. والدعاة إلى هـذا التقليد يقولون: يجب أن تكون لدينا لغة منطوقة محكية بدلا من المـكتوبة الفصـيحة، كما لغيرنا في ديار الغرب، وما أشبه هـؤلاء بقوم موسى إذ قالوا لنبيهم:

( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) (الأعراف:138)

ويقولون إن العربية الفصحى أصيبت بشيء من العقم [6] ، بعد أن انقطعت الصلة بينها وبين الشعوب العربية، في حين أن العامية بقيت تولد.

لذلك يليق بالفصحى -في نظرهم- أن تتبنى بعض مولدات العامية، كالأفعال الرباعية، على وزن «فعلل»، التي يكثر استعمالها في العاميات والدوارج العربية، ولا فرق عندهم أكان في الفصحى ما يقابل مثل هـذه الأفعال وغيرها أم لم يكن، فضمها إلى الفصحى، وضم أسماء ومصطلحات كثيرة ابتدعتها العامية من شأنه أن يزيد في ثروة اللغة لا أن يقلل منها.

والحقيقة أن القول: بأن العربية الفصحى أصيبت بالعقم بعيد عن الصواب؛ لأنها تمتلك آليات توليد الألفاظ والمصطلحات ولا تضيق بالجديد، وتتضمن أدوات الاشتقاق والنحت والاقتراض والتعريب ، فليس العيب فيها ولا القصور، وإنما العيب في إهمال هـذه الآليات وعدم تشغيلها لتوليد [ ص: 74 ] الجديد، ولا يصح أن تتبنى العربية بعض مولدات العاميات وتضمها إليها؛ لأن في آليات العربية الصرفية والصوتية ما يغنيها عن اللجوء إلى العامية، ويزودها بما تحتاج إليه في ميدان التوليد الدلالي، وإذا تصورنا أن العربية تلجأ إلى العامية وتستجدي منها الألفاظ وتستمد منها الدلالة، فإن هـذا اللجوء سيتمادى مع الزمن، وستتكاثر المواد اللغوية العامية على حساب المفردات العربية التي تمتلئ بها بطون المعاجم منتظرة من يحررها من ربقتها، وفي ذلك إحياء للعاميات وإمدادها بكل شروط البقاء والانتعاش، وإماتة للعربية الفصحى وسلب كل مقومات الحياة منها، واتخاذ هـذه بدلا من تلك.

إن اللهجات المحلية والعاميات لا يمكن اتخاذها بدلا من العربية الفصيحة بحال من الأحوال؛ وذلك لأن الفصيحة -في أصلها- قد نزل بها القرآن الكريم، ووصلها بالعقل والشعور النفسي حتى عمت وانتشرت، فلو تخلى عنها أهلها واستبدلوا غيرها بها « لحفظها الشعور النفسي وحده، وهو مادة العقل بل مادة الحياة [...] ولولا هـذا الشعور [...] لدونت العامية في أقطار العربية زمنا بعد زمن، ولخرجت بها الكتب، ولكان من جهلة الملوك وأشباههم -ممن تتابعوا في التاريخ العربي- من يضطلع من ذلك بعمل، إن لم يكن مفسدة فمصلحة يزعمها، كالذي فعله بعض ملوك الرومان وبعض شعرائهم في تدوين العامية من اللاتينية، حتى خرج منها اللسان الطلياني، وكما فعل اليونان في استخراج اللسان الرومي، وهو العامي من اليونانية» [7] [ ص: 75 ]

أما العربية الفصحى فالذي أمسكه القرآن الكريم منها «لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض، ولم تتلاحق أسبابه في لغة بعد العربية، وهذه اللغة الجرمانية انشقت عنها فروع كثيرة في زمن جاهليتها، واستمرت ذاهبة كل مذهب، وهي تثمر في كل أرض بلون من المنطق وجنس من الكلم، حتى القرن السادس عشر للميلاد؛ إذ تعلق الدين والسياسة معا بفرع واحد من الفروع، هـو الذي نقلت إليه التوراة فاهتز وربا وأورق من الكتب وأزهر من العقول وأثمر من القلوب، وبعد أن صار لغة الدين صار دين التوحيد في تلك اللغات المتشابهة، وبقيت هـي معه إلى زيغ حتى انطوت في ظله، ثم ضحى بنوره فإذا هـي في مستقرها من الماضي ونسيت نسيان الميت... واللاتينية، فقد استفاضت في أوربا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والإسبانية وغيـرها، وكان منها علمي وعامي بلغة العلم ولغة اللسان، ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلف منها في منـاطق هـذا الجيل، ما لا تعرف له شبيها في المتباعدات المعنوية، حتى كأن بين اللغة واللغة العدم والوجود. » [8] .

وهناك شبهة أخرى متصلة بالتي سبقت، وهي الدعوة إلى تيسير العربية وتبسيطها وتسهيلها، واختيار لغة وسطى وإلغاء الإعراب، والدافع إلى هـذه الدعوة هـو ادعاء وجود صعوبة في تعلم العربية الفصيحة.

وعندي أن ادعاء الصعوبة افتراء على الفصحى؛ لأن اللغات الأجنبية نفسها لا تقل عن العربية صعوبة في التعلم، والمواد الملقنة للتلميذ كالرياضيات وغيرها أشد صعوبة ومع ذلك يكثر مجيدوها. وإن الزعم بوجود صعوبة في [ ص: 76 ]

تعلم الفصحى افتراء لا مسوغ له؛ لأنه ليس المراد عند دعاة تيسير العربية وتبسيطها البحث عن منـزلة وسطى ميسرة، ولكن المراد عندهم إقصاء الفصحى وزحزحتها عن مكانها ليخلو المكان للعامية والأعجمية.

وقد رد الأستاذ عباس محمود العقاد ، رحمه الله، على هـذا الافتراء بقوله: «وعندنا -وعند أنصار الفصحى أجمعين- أن مسألة القواعد قد فرغ منها في عصرنا، فلا يجوز لنا أن نلغيها ولا أن نستحدث بديلا يناقضها، وكل ما يجوز لنا أن نتوسع في تطبيقها، وأن نقيس عليها ما يماثلها، وأن نحرص على بقاء نحوها وصرفها؛ لأن لغتنا خاصة لا تبقى بغير الإعراب، ولا تصح المشابهة بينها وبين اللغات التي لا إعراب فيها ولا اشتقاق، لأن قوام اللغات القائمة على النحت ولصق المفردات غير قوام اللغة التي تختلف بالحركة في كل موقع من مواقع الحروف، ولا سيما الحروف التي يقع عليها الإعراب» [9]

ولا شك أن الدوارج والعاميات واللهجات، قد وجدت في البحوث الجامعية دعما وسندا؛ حيث أنجزت كثير من الرسائل والأطروحات في ظواهر لغوية تطبيقية على هـذه اللهجة أو تلك، بمنهج لساني واحد أو بمناهج متقاربة، على غرار ما هـو سائد في الجامعات الغربية، تاركين الفصحى في معزل عن الدراسة إلا في القليل النادر.

وتمتد بذور الدعوة هـذه إلى القرن التاسع عشر، حين نشر المستشرق الألماني « ولهلم سبيتا » سنة 1880م -وقد كان مديرا لدار الكتب المصرية آنذاك- كتابا باللغة الألمانية في (قواعد اللغة العامية بمصر) دافع فيه عن [ ص: 77 ] ضرورة قيام اللهجة العامية بمهام التعبير عن الحياة المعاصرة بمرافقها المختلفة؛ إذ إن التزام الكتابة العربية الفصحى يحول دون نمو الأدب وتطوره، وانضم إلى معسكره في الحرب على الفصحى مستشرقون آخرون مثل «كارلو لندبرج» و «كارل فولرس»، و «ولكوكس» فيما بعد. وقد «تنبأ» «ولهلم سبيتا» بمصير الفصحى إلى الموت! كما ماتت اللاتينية، فلا بد من إحياء الدوارج والعاميات ووأد الفصحى، وقد قارن هـذا الوضع بما كان من أمر اللاتينية التي أماتتها اللغات الفرعية التي كانت في أول أمرها لهجات محلية أو تشبه اللهجات المحلية، وقد قال «سبيتا» في مقدمة كتابه : «إن الصـراع بين العامية والفصحـى مسألة حياة أو موت...». ولا ينبغي أن ننسى نوايا هـؤلاء المستشرقين ورواد الاستعمار، التي كانت تبيت لإسقاط العربية والتمكين للعاميات والأجنبية، كما لا ننسى الصعوبة التي يجدها هـؤلاء في تعلمهم العربية الفصحى من أجل اكتشاف فكرها وحضارتها، فكان أن واجهوا هـذه الصعوبة بالدعوة إلى التخلي عن الفصحى وتجاوزها، إلا القليل منهم [10] . والنماذج في هـذا الباب كثيرة، والمتأخرون منهم وصلوا إلى وضع الفرضيات اللسانية بخصوص وجود الشبه بين العربية واللاتينية من جهة، وبين الدوارج العربية واللغات الحية الأوربية من جهة ثانية. ومن هـذه النماذج المتأخرة [ ص: 78 ] العالم اللغوي الفرنسي «ميي A.meillet» في كتابه «اللسانيات التاريخية واللسانيات العامة» [11] ؛ فقد تحدث عن التطور اللغوي، وبنى رأيه على فرضية مفادها أن السمات العامة للتطورين تتماثل في كل الحضارات، وبناء على هـذه الفرضية عقد موازنة بين تطور اللاتينية وتطور العربية، وزعم أن التطورين متماثلان، واستنتج أن كل واحدة من هـاتين اللغتين قد أدت إلى ميلاد لغات متعددة منفصل بعضها عن بعض؛ يقول : «تعتبر بعض اللغات بديلة للغة واحدة وجدت سابقا؛ تعتبر الفرنسية والإيطالية مثلا بديلين للاتينية، وتعتبر العربية السورية والعربية المصرية والعربية المغربية - وهي تختلف فيما بينها عند الكلام - بدائل من لغات الفاتحين العرب».

وقد تحدث علماء لسانيون آخرون عن وجوه الشبه بين حضارتين، فزعموا أنه لكي تتماثل السمـات العامة للتطور في حضارة من الحضارات مع سـمات تطور حضـارة أخرى، يجب أن تمر الحضـارتان بظروف متقاربة إن لم نقل بالظروف عينها. وأنت ترى أن هـذه الفرضيات عبارة عن مزاعم نظرية؛ لأن الواقع يشهد بخصوصية الحضارات وخصوصية اللغات، وليست اللغات كلها خاضعة لمعايير التطور ذاتها، فلكل حضارة خصوصيتها وطريقة تطورها، وكذلك اللغة، وهذه الخصوصية تابعة لظروف الأفراد الحضارية. [ ص: 79 ]

ورد أحد الباحثين على تلك المزاعم النظرية التي لا أساس لها من الواقعية بإثارة سؤال وجيه هـو: كيف يمكن تفسير تباعد اللغات الأوربية (كالفرنسية والإيطالية وغيرهما...) فيما بينها، وتقارب اللهجات العربية فيما بينها؟ ويجيب بأن تفسير هـذا الاختلاف بين المجموعتين في علاقتهما بلغتهما الأم، لا يجوز أن يتم برصد مفهوم التطور، بل بمفهوم آخر هـو مفهوم القطيعة (Rupture) [12] ؛ فالقطيعة مسافة لغوية تفصل بين لغة محدثة وبين أصلها التاريخي الذي انسلخت منه، وهي تتجسد في شكل انقسام كلي حاد بين اللغة الأم واللغات المتولدة منها، وهنا يمكن أن نتحدث عن القطيعة في علاقة العربية والعبرية والأكادية والآرامية والحبشية باللغة الأم، أما التطور فهو أمر يصيب اللغة نفسها في بنيتها ومعجمها وأصواتها، وذلك في ضوء تطور المجتمع والمفاهيم والعقائد، على نحو ما قال ابن فارس اللغوي : «فلما جاء الله تعالى جل ثناؤه بالإسلام حالت أحوال، وانسلخت ديانات، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ عن مواضع أخر بزيادات زيدت وشرائع شرعت وشرائط شرطت، فعفى الآخر الأول» [13]

أما اللهجات، فلكي تعد حالة من حالات التطور، يجب أن يكون لألفاظها البنى نفسها التي تقوم عليها ألفاظ اللغة، ولتراكيبها تراكيب اللغة نفسها، عموما؛ ففي الأصوات تمثل اللهجات تطورا صوتيا للغة واحدة؛ فقد [ ص: 80 ] تحدث اللغويون منذ القديم عن عنعنة تميم ، وكشكشة ربيعة ، وكسكسة هـوازن ، وعجرفية ضبة ، وقطعة طيئ ، وعجعجة قضاعة وغمغمتها، وتلتلة بهراء ، وطمطمانية حمير ، واستنطاء أهل اليمن ووتمهم وشنشنتهم، ولخلخانية أهل العراق، وتضجع قيس ، وفشفشة تغلب ، وفحفحة هـذيل ... [14] فهذا التنوع مظهر من مظاهر التطور الصوتي في جسم اللغة الواحدة. وهذا التفرد الصوتي الذي نجده في كل لهجة يعني أن اللغة الأم تمتلك القدرة على أن تكون منطوقة بعدة طرق صوتية تمثلها اللهجات، وهذا معروف في اللغة الإنجليزية بين فرنسا وإنجلترا ، وفي الفرنسية بين فرنسا وبلجيكا وكندا ... ومجموع هـذه الخلافات الصوتية لا تجعل من اللهجات لغات مستقلة بذاتها، بل يمكن تفسير الخلاف بين الفصيحة والعامية بأن الأمر يتعلق بإنجازات متعددة لقدرة لغوية واحدة؛ فالمستمع العربي يستطيع عبر قدرته اللغوية الفطرية أن يفهم ما يسمعه من جمل فصيحة وإن لم ينجز جمله بالعربية الفصيحة. فليس معنى الخلاف بين الفصيحة والعامية وجود ازدواجية بين هـذه الإنجازات؛ لأن الازدواجية تعني وجود صراع بينها [15] ، وهذا أمر منتف عنها، وهو من شأن اللغات «الحية» في أوربا . [ ص: 81 ]

وهنا يلاحظ أن التواصل والتفاهم أمر قائم بين المتكلمين العرب من مناطق مختلفة، على تنائي الديار واختلاف الأقطار؛ فالخلاف بين الفصيحة والعامية خلاف في الإنجاز والسليقة واحدة، ومرجع الخلاف إلى ثقافة كل متكلم ومستواه وطريقة بيئته في النطق بالحروف... كما هـو الشأن في سائر اللغات، فالخلاف بين هـذه العاميات العربية خلاف تنوع لا خلاف تضاد، ولا يرقى إلى مرتبة إماتة اللغة الأم أو الجور عليها، أما الخلاف بين اللغات المتفرعة عن اللاتينية فهو خلاف تضاد، أدى إلى إماتة اللغة الأم.

وخلاف التنوع الذي تتصف به الدوارج العربية، كما أسلفنا ذكره، مظهر من مظاهر التطور الذي تمر به العربية اليوم، وهو تطور فريد من نوعه في تاريخ تطور اللغات؛ ذلك أن اللغات تتطور في خط يقودها إلى التباعد والقطيعة مع الأم، لكن العربية، كما يلاحظ، تعيـش تطورا عكسيا يعود بها من شكلها العامي الدارج المتعدد إلى شكلها الفصيح الموحد الذي كانت عليه، والسبب في ذلك هـو التواصل المستمر بين الناطقين بالعاميات العربية ومصادر الدين العربية التي حفظت الفصحى ورعتها، فظلت العاميات مخلصة للعربية ولحضارتها لا عاقة لها، على خلاف اللغات «الحية» التي انفصمت عن الأم لانفصال المدنية الأوربية عن الدين، واضطرارها إلى لغة موحدة تتواصل بها، فلم تجد هـذه المدنية المادية إلا اللغة الإنجليزية للتواصل، ومعلوم أن الإنجليزية لا تمثل اللغة الأصلية لأوربا كلها. [ ص: 82 ]

يتبين مما سبق أن عرضه الباحث



[16] أن حركة الاستعمار والاستشراق اتخذت أدوات لفك المركب الحضاري الإسلامي وتغييره بمركب حضاري غربي هـو الحضارة اللاتينية المسيحية، ولكنها لم تفلح في تغيير لغة التعبير العربية ولم تفلح في التمكين للعاميات؛ لأن القرآن الكريم يشد أزر لغة التعبير ويحفظها، ويرعى السلائق اللغوية العربية المتفاوتة

[17] ، ولأن مشروع التغريب قاطع للأواصر مع الإسلام والعروبة، وغير قادر على إثبات دعوى اعتبار الغرب محور العالم والحضارة، واعتبار الإسلام والعروبة عنوانا على التخبط والجمود. وقد انجرف مع هـذه الدعوى الموهومة جحافل من الساسة والمثقفين العرب، من دون جدوى وبلا فائدة ترجى.

لكن الحقيقة أن قـياس الدوارج العربـية على اللغات الحية الأوربية لم يكن يراد منه إلا تقسيم العالم الإسلامي بحسب لهجاته؛ بيد أنه عالم واحد وأمة واحدة، لها من مقومات التوحيد أكثر مما لغيرها من الأمم، ومصير اللهجات العربية إلى التوحد لا التباعد،وهو ما تثبته الوقائع باستمرار، وما تنقله التجارب في ميدان التعلم والتلقي، بدءا من وسائل الإعلام السمعية والبصرية ومرورا بمجتمع الناس، ثم مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني وفعالياته، كالمدرسة والجامعة والمؤسسات التربوية والتعليمية، ثم الصحف والمجلات والنشرات والإعلانات، ومجالس الفكر [ ص: 83 ] والأدب والمنتديات، والمؤتمرات والاحتفالات... وهي تجارب، وإن كان مقدار الفصيح منها هـزيلا بالنسـبة إلى ما يتلقاه المتـعلم باللهجات الدارجة، فإنها تزيد في تقريب اللهجات بعضها من بعض لضرورة التفاهم بين الأقطار العربية.

ولا شك أن اللغة العربية الفصحى هـي الوشيجة التي تشد هـذه اللهجات فيما بينها وتقرب بعضها من بعض. ويتصور أن يستمر خط التقارب بين اللهجات مع مستقبل الأيام، فتختفي كثير من الألفاظ والتراكيب العامية، ويحل محلها -بكثرة الاستعمال والتداول- ألفاظ وتراكيب عربية، ولكن شيوع العربية وانتشارها وحلولها محل الدوارج واللهجات على مدى واسع، لا يعفي المؤسسات الرسمية والاجتماعية والمجامع العلمية من دورها في نشر هـذا التداول العريض؛ فهي مكلفة بتطويع الأوضاع اللغوية وتقويمها، واقتراح خطط علمية وواقعية للتعريب الشامل، تقوم على تنمية اللغة داخليا، وتهييء الأدوات والوسائل التقنية التي تؤهلها لمهمة التعريب والتمكين للعربية بين اللغات الأخرى وتحسين وضعها التعبيري والتداولي [18] . [ ص: 84 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية