- من أخطار الترجمة على الفصحى
يجب أن نقرر مطمئنين أن العربية أفادت من الترجمة، وأن الترجمة كانت هـي النافذة التي أطلت منها العربية على علوم ومعارف الأمم الأخرى طيلة عهود التاريخ العربي، قديمه وحديثه. غير أن كوكبة من الشداة المعاصرين وقعوا تحت سيطرة الأساليب الأجنبية، بدافع التأثر الإعجابي، فأرغموا العربية على قبول جيش عرمرم من الألفاظ الأجنبية من دون طائل، وحشود من التعابير التي لاتتفق مع نوامـيس العربية، ولاتحمل خصائصها، ولا تستظل بأظلالها، ولا يسري في عروقها دم العربية، وإنما هـي بنت تتزيى بالأزياء الأجنبية، حتى وإن بدت عربية بواسـطة الأحرف والكـلمات، وما ذلك إلا من سبق العجمة إلى ألسنة هـؤلاء، فقصرت بهم عن تحصيل ملكة العربية الفصحى. وقد أضرت هـذه الأساليب التي تروج لها وسائل الإعلام العربية، كما تضر الحشرات السامة بالمحاصيل الزراعية. [ ص: 141 ] وقد سرى هـذا النوع من التأثير حتى على أقلام كبار أدباء العربية الذين أرغموها-أو كادوا- على تقبل خواص تراكيب تلك اللغات التي أحدثت في العربية تطورا ما أنزل الله به من سلطان. وقد يقول قائل: إن هـذا التحول في المعنى يعد من ألوان التطور البدهي الذي أفضت إليه سنة التجديد في التعبير، تبعا لتغير الحاجة والأحوال، وأن مقومات الصحة والسلامة قد توفرت لها، فلماذا نقصيها من التداول؟ وهو وايم الله مسوغ يعكس الكسل اللغوي الذي تقذف به بعض الأقلام المقحوطة، التي لا تدري أن العربية لا تعاني النقص في التعبير، بقدر ما تشكو الاتساع والترادف في كثير من الميادين. انظر إلى الفصحاء الرصفاء كيف يقسمون أحوال الموت على هـذه الشاكلة: مات الإنسان، ونفق الحمار، وطفس البرذون، وتنبل البعير، وهمدت النار، وقرت الجرح... كيف يمكن تسوية هـذه الدقة في التعبير، بقولهم: مات حـتف أنفه. ويعنون بذلك أنه مات في الحرب، بينما العبارة لا تطلق إلا على الذي لعق إصبعه وضحا ظله على السرير من غير قتل، وهي عبارة إسلامية أول من تكلم بها هـو الرسول. « قال ابن دريد في المجتبى: باب ما سمع من النبي مما لم يسـمع من غـيره قبله: أخـبرنا عبد الأول بن مريد أحد بني أنف الناقة من بني سعد في إسناد قال: " قال علي ، رضي الله عنه : ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وقد سمعتها من النبي، وسمعـته يقول: ( مات حتف أنفه ) وما سمعـتها من عربي قـبله. " وقال ابن دريد : ومعنى حتف أنفه: أن روحه تخرج من أنفه، بتتابع نفسه؛ لأن الميت على فراشه من غير قتل يتنفس، حتى ينقضي رمقه ...» [1] . [ ص: 142 ]