د- إشكالية الاصطلاح لقد حبر المتنطسون مقالات عديدة حول هـذه الإشكالية، ونظمت في شأنها ندوات فكرية لا يستهان بها، غير أن الإشكالية بقيت على حالها، ليس لقصور في آفاق الذين بحثوا القضية، ولكن -فيما أحسب- لأن طبيعة اللغة العربية لا تلين قناتها لهذه المركزية الاصطلاحية الثابتة التي يدعو إليها الداعون، حيث إن جوهر هـذه الاختلافات في التسمية يعود لاتساع استعمالات اللغة لأغراض ثقافية واجتماعية يصعب تجاهلها. لذا فالمرتجى هـو أن يسعى الاخصائيون إلى تحقيق قدر من التقارب بين الاصطلاحات المختلفة؛ بالنسبة إلى الدلالة الواحدة. يجب أن نقر أن الاختلاف في التسمية الاصطلاحية وارد، لأننا نتحدث عن شيء واحد بألفاظ لاحصر لها في العربية، وليس بوسع أي شرطة لغوية مجمعية أن تفرض تعييرا واحدا ووحيدا، إلا إذا فعلنا مفهوم الوحدة العربية في الاقتصاد، وفي السياسة، وفي التعليم، وفي الإعلام، وهلم جرا. فهل نحن سائرون بجد وثبات نحو هـذا المقصد النبيل؟ هـل لدينا من القوة والمناعة ما يجعلنا نستغني عن استيراد منتجات الآخرين؟ ماهي درجة جديتنا في اتجاه إذابة فرقة المذاهب الدينية والسياسية؟ هـل نحن مستعدون للتنازل عن أنانيتنا، بشأن توزيع ثروتنا الطـبيعية بكيفية عادلة ومتكاملة، ولو بواسطة المقايضة ؟ إلى متى سيبقى مشروع السوق العربية المشتركة معطوبا، وما هـي الإجراءات الفعالة لتأسيس هـذه السوق التي ستضمن ولوج البضاعة العربية إلى كل بيت عربي، وعليها يافطة واحدة تحدد اسمها؟ [ ص: 166 ] تلك هـي الأسئلة المحرجة التي لا مفر من إلقائها في هـذا المقام، والتي يعد بحثها انطلاقة العمل العربي المشترك، ليس فقط بالنسبة إلى التعريب وتوحيد الاصطلاحات، ولكن بالنسبة إلى جني ثمار التكتل من خلال القيام بأدنى هـزة للشجرة العربية الموسقة، بإذن الله.
يتضح إذن أن الإزدواج في الاصطلاحات العربية قدر لا مفر منه، نظرا للأسباب الآتية:
- تعدد المؤسسات التي تضطلع بوضع الاصطلاح ( المجامع اللغوية المختلفة، لجان الترجمة والتعريب، المعجمات، المعاهد، ودور النشر...)
- الاختلاف في منهجيات وضع الاصطلاح (من اشتقاق، وتوليد، وارتجال، وتعريب واقتراض، وترجمة، ودخيل) .
- ثراء اللغة العربية وذخيرتها اللغوية.
- ازدواجية بعض الاصطلاحات في لغة المصدر.
- إغفال الرسائل اللغوية التراثية في أثناء وضع الاصطلاح. [1] إذ على الرغم من التشريعات الضابطة لآليات إنتاج الاصطلاح التي أصدرتها كثير من الندوات، فإن الاختلاف ظل واردا، لم يسلم منه حتى مكتب تنسيق التعريب التابع لجامعة الدول العربية، الذي قام -مشكورا- بإخراج مجموعة من المعجمات في فروع علمية مختلفة، تعد بلا مراء نواة عوربة الحياة العلمية والثقافية في الوطن العربي. [ ص: 167 ] وقبل مسح اليراع عن هـذه القراطيس، أدعو القارئ أن ينظر معي نظرة طائر إلى بعض هـذه الاختلافات التي يفرضها منطق العربية:
الاصطلاحات في العربية مقابلها في اللغة الأجنبية (الفرنسية) عون = إمداد = مساعدة = نجدة = إسعاف ... Secours إنتاج = غلة = إيراد = حصيلة = محصول ... Rendement بحث = تنقيب = تحر = تفتيش ... Recherche ضابط = قانون = معيار = نموذج = قاعدة ... Norme تكرير = تصفية = تنقية ... Raffinage الانطباعية = التأثرية = الارتسامية ... Impressionisme الدافعية = التحفيز = الحافزية ... motive الانزياح = الخرق = العدول ... Ecart تهجين النباتات = تلاقح النباتات ... Croisement des plantes الاعتصار = الابتزاز = ومن المجاز: قطع اللسان ... Chantage الممخضة = الإبريج = دواية اللبن = الشكوة ... Ecrémeuse
وقد حرص الأخصائيون في الوطن العربي على سن منهجية علمية في الصناعة الاصطلاحية، تقوم على مبادئ علمية موحدة، وترتكز إلى أسس موضوعية مشتركة؛ الدافع إليها الرغبة في التقليل من التباينات الملحوظة في الاصطلاحات بين البلدان العربية، ولاسيما بين البلدان التي تستعمل الفرنسية، وبين الأخرى التي تستعمل الإنجليزية. [ ص: 168 ] ويمكن إجمال عناصر هـذه الخطة في ما يأتي:
- مبدأ «التعيير» الذي ينهض على التوحيد المعياري للاصطلاحات المترادفة، من أجـل اختيار وتبني أكثر تلك المرادفات مـلاءمة، وبالتالي دعوة الهيئات والمجمعات والمنظمات والجامعات إلى استعمال وإشاعة الاصطلاح المعير.
- مبدأ «التنميط» الذي يعني صياغة الاصطلاحات انطلاقا من الأنماط والمعايير المتفق عليها، مثل: البحث في الرسائل اللغوية؛ وفي كتب التراث؛ عن معادل للاصطلاح الأجنبي، فإن لم يتوفر اللفظ الدقيق، يتم الانتقال إلى التوليد، فالاشتقاق، وهلم جرا.
- مبدأ «التوحيد» الذي يقصد منه اعتماد خطة موحدة يتم من خلالها صناعة الاصطلاح، وتستند هـذه الخطة على مقدمات منها: مراعاة مبادئ الاقتصاد في التعبير، بحيث يفضل التعبير عن الاصطلاح بلفظ واحد بدل لفظين، بالإضافة إلى مراعاة سهولة الاصطلاح في النطق، ناهيك عن الأخذ بمبدأ الاستعمال والرواج؛ لأن كثيرا من الاستعمالات الاصطلاحية، يصعب طردها من حظيرة العربية، بعد أن استتب لها الأمر، نتيجة كثرة تداولها من لدن المجتمع اللغوي الذي أذعن لسلطانها، بالنسبة إلى الخافقين (المشرق والمغرب) . فهل تمكنت تلك الإجراءات من إبادة فوضى الاختلاف في التعبير عن المفهوم الواحد بين الأقطار العربية؟ لا شك أن هـناك كوكبة من [ ص: 169 ] الاصطلاحات التي بسطت سلطانها على جميع الأقطار العربية، وأن هـناك أفواجا تنتظر دورها لتطرد الاصطلاح الأجنبي من سوق التداول، لكن الشوط مازال بعيدا في الوصول إلى التوحيد المأمول الذي يزيل الأصداف عن الجواهر العربية، ويطوق بها جيد الخرد العين، فتبدو زاهية تعشو إليها أنظار أبنائها، ويتسع مجال تداولها، فتزكو وتنضر؛ ثم تثمر ما يكون شفاء للأوضار التي أعاقت سيرها طيلة عهود انحطاط الأمة.