ثالثا: في ساحة الفقه الإداري:
اهتمامنا – على مستوى الأمة - بالعلوم الإدارية لم يكن أحسن حالا من سابقتها، حيث أصبحنا عاجزين عن الاستفادة من القدرات العقلية المتوفرة، وتنظيمها في مؤسسة إنتاجية عالية، وعاجزين عن أن نضع كل كفاءة في مكانها المناسب، بعيدا عن مقتضى الولاءات العائلية والحزبية... بل أصبحت الوظائف العليا في كثير من بلادنا مرهونة لأصحاب الولاء.
ودراسة العلوم الإدارية أصبح وردا يدرس في الجامعات دون أن يساهم في حل المشكلات الإدارية للبلاد، التي تعاني من تناثر الكفاءات وعدم تنظيمها في منظومة بحيث يستفاد من طاقاتها، ويأخذ كل واحد مكانه بقدر طاقته وعطائه، وتصبح قدرات الأمة وطاقاتها في نسيج تماسكي يدفع المجتمع إلى الأمام، وبذلك يتسنى للأمة القيام بالواجب الكفائي في هـذا المجال.
وتشير الإحصاءات إلى أن هـجرة العلماء والمهنيين العرب إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة وصلت حتى عام 1976م إلى حوالي 24000 طبيب و17000 مهندس و75000 مشتغل بالعلوم [ ص: 69 ] الطبيعية، وقد تصاعد هـذا العدد حتى نهاية القرن العشرين إلى حوالي مليون مهني عربي [1] .. ومن دولة مصر وحدها هـاجر أكثر من 450000 من حملة المؤهلات العليا إلى الغرب، مما يؤكد حالة الإخفاق الذي تعيشه الحكومات العربية في قدرتها على استيعاب أبنائها والاستفادة من قدراتهم. [2] وهجرة الكفاءات ظاهرة انتقائية، بمعنى أن العناصر الأنشط والأكثر تأهيلا هـي التي تزيد عادة فرص هـجرتها، وهي في نهاية المطاف تزيد من عجز الكفاءات في بلداننا، مما يؤدي إلى تدني مستوى إنتاجية الكفاءات الباقية، ويضعف فرص الوصول إلى «مجتمع المعرفة»، الذي يوظف المعرفة لأن تحكم العلاقات الاجتماعية المتعددة، وتنتج المعرفة والتكنولوجيا، الأمر الذي يكرس حالة التخلف، الذي يتنافى مع روح ديننا الحنيف، الذي يدعو لأن تكون [ ص: 70 ] الأمة شاهدة على الناس، قائدة لهم، قادرة على التصدي لمثل هـذه الإشكاليات، التي هـي في أغلبها ترتيبات إدارية ومسألة أولويات وأسلوب إدارة وسياسة، وهي كغيرها من « الواجبات الكفائية » عجزنا عن القيام بها، أو قصرت أفهامنا عن إدراكها كواجبات دينية نتقرب بها إلى الله عز وجل، ونشعر بالإثم عند التقصير في أدائها.