ثانيا: نقد النزعة الظاهرية
الظاهرية مذهب فقهي قائم على الأخذ بظواهر الكتاب والسنة والإجماع، ورفض القياس والاستحسان والتعليل ، وسائر أوجه الرأي. وسمي أتباع هـذا المذهب بـ: الظاهرية، نسبة إلى مؤسسة: داود بن علي بن خلف بن علي الظاهري ، الذي عرف بالقول بالظاهر، ومدافعته عن فقه الظاهر، ورفضه للقول في دين الله بالرأي والقياس، وكانت بداية ظهور هـذا المذهب النصف الأول من القرن الثالث الهجري
[1] . [ ص: 50 ] والقول بالظاهر معناه : (الخروج من الخفاء إلى المعنى الواضح البارز بذاته، الذي يستنبطه العقل على البديهة بحكم منطوق اللغة ودلالات مفهوم خطابه الذي يبدو للسامع وفق استعمال العرف والعادة، وذلك في إطار المصدرين الثابتين: القرآن، والسنة [2] .
وهناك من يرى أن الظاهرية نشأت لتقاوم الباطنية من ناحية، ولإنكار الحاجة إلى إمام مستر، ورد عبد الحليم عويس على هـذه المقابل بأنها غير صحيحة لعدة أسباب هـي:
- الظاهرية مذهب في الفروع بخلاف الباطنية مذهب في الأصول العقدية.
- الظاهرية نشأت قبل ظهور الباطنية بنحو ثلاثة عقود.
- لم يعرف لمؤسس الظاهرية (داود) اتصال بالباطنية أو مناقشات مع أعلامهم.
- إن ابن حزم الذي يعد من أكبر المدافعين عن الظاهرية لم يشتغل بالرد على الباطنية في كتبه ومعاركه الفكرية إلا بقدر لا يزيد فيها عن غيرها من الفرق الضالة، عكس مناقشاته للقضايا الأصولية والفقهية مع أصحاب المذاهب خاصة الحنفية والمالكية ، كما هـو ظاهر في كتابه الأصولي : (الإحكام في أصول الأحكام) ، وكتابه الفرعي: (المحلي) ، وهي كلها مناقشات تؤكد أن الظاهرية مذهب فقهي يتحدث في الفروع، ويحصر أصول الاستنباط في: [ ص: 51 ] القرآن، والسنة. فلم ينشأ ليقاوم الباطنية، بل ليقاوم القول في دين الله بالرأي والاستحسان [3] .
رأيهم في فهم النصوص :
تقوم نظرة الظاهرية في فهم النصوص وتفسيرها على ثلاثة أسس هـي:
الأساس الأول: فرضية التمسك بالظاهر
يرى الظاهرية أن التمسك بالظاهر فرض لا يحل تعديه إلا بنص أو إجماع متيقن، وقد عبروا عن هـذا الرأي بقولهم: (فإن قالوا: بأي شيء تعرفون ما صرف من الكلام عن ظاهره؟ قيل لهم: نعرف ذلك بظاهر آخر مخير بذلك، أو بإجماع متيقن منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنه مصروف عن ظاهره فقط) [4] .
واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة نذكر منها:
- قوله تعالى : ( واتبع ما يوحى إليك ) (الأحزاب:2) ،
حيث أمرت الآية بإتباع الوحي النازل وهو المسموع فقط.
- قوله تعالى : ( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) (الأنعام:114) ، فمن ابتغى حكما غير المنصوص في [ ص: 52 ] القرآن أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقد ابتغى غير الله حكما، وقد فصل الله تعالى كل شيء، وهذا هـو الظاهر الذي لا يحل تعديه.
- قوله تعالى : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) (العنكبوت: 51) ،
فأخبر تعالى أن الواجب في الاكتفاء بالمتلو علينا، وهذا منع من اتباع غير الظاهر المتلو.
- قوله تعالى: ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) (النحل: 89) ،
وقوله : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) (النحل: 44) ،
فدلت الآيتان على أن البيان محصور في القرآن والسنة، وهذا يدل على وجوب اتباعهما وبطلان كل تأويل دونهما.
- قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) (البقرة: 104) ،
فدلت الآية على أن اتباع الظاهر فرض لا يحل تعديه أصلا [5] .
هذه بعض الأدلة التي تمسك بها الظاهرية في دعوى وجوب اتباع الظاهر، وعدم صرفه إلى معنى آخر إلا بظاهر مثله. والحقيقة أن الأدلة الواردة عامة في وجوب اتباع القرآن والسنة، والعمل بهما من أحكام آمرة ناهية، وعد تركهما إلى غيرهما من آراء البشر القاصرة عن هـداية الإنسان إلى الصلاح، ولا تدل أبدا على حصر النظر والاجتهاد الفقهي والأصولي في ظواهر النصوص. [ ص: 53 ]
الأساس الثاني: لا مقصد إلا فيما دل عليه الظاهر
بناء على قولهم بوجوب التمسك بالظواهر، وعدم صرفها إلى غيرها إلا بظاهر رفضوا الاجتهاد بالرأي ، وبذلك ضيقوا من دائرة تفسير النصوص وتقصيده، وحصروا فهمها فيما ظهر منها لا فيما بطن.
وقد لخص الشاطبي رأيهم هـذا بقوله: (وحاصل هـذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا، وهو رأي الظاهرية ، الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص) [6] .
كما أن المصلحة المقصودة شرعا هـي ما دل عليها ظاهر النص فقط، كما يقول عنهم أبو زهرة : (لا يعرفونها -أي: المصلحة- إلا عن طريق ظواهرها -أي: النصوص- ولا يفرضون أي مصلحة وراء هـذه النصوص)
[7] .
الأساس الثالث: بطلان التعليل إلا فيما ظهر
مذهب الظاهرية نشأ ليقف ضد الاجتهاد بالرأي، ولذلك أنكروا القياس في الدين، وأبطلوا التعليل تبعا له؛ لأن القياس يعتمد على معرفة علل النصوص. ومعلوم أن علل النصوص هادية إلى إدراك مقصد الشارع، [ ص: 54 ] فالبحث عنها يقود إلى معرفة المقصد الشرعي؛ لذا كان التعليل مسلكا من مسالك الكشف عنها كما سيتضح في موضعه. وقد أنكر الظاهرية هـذا المسلك بقولهم : (لا يحل لأحد تعليل في الدين، ولا القول بأن هـذا سبب هـذا الحكم إلا أن يأتي به نص فقط) [8] .
ويرون وجوب التوقف عند الأحكام غير المعللة نصا، وتفويض الأمر إلى الله تعالى دون البحث والسؤال عن الأسباب والعلل : (ولسنا نقول: إن الشرائع كلها لأسباب. بل نقول: ليس منها شيء لسبب إلا ما نص منها أنه لسبب، وما عدا ذلك فإنما هـو شيء أراده الله تعالى واصفا نفسه :
( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (الأنبياء:23) ،
فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه، وأن أفعاله لا يجري فيها (لم؟) ، وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله (لم كان هـذا؟) ، فقد بطلت الأسباب جملة، وسقطت العلل البتة إلا ما نص الله عليه أنه فعل أمرا كذا لأجل كذا) [9] . فهذا النص صريح في إنكار تعليل الأحكام والنصوص، وأنه يجب التوقف عند العلل المنصوصة وعدم تعديها. واحتج الظاهرية على إبطال التعليل بعدة أدلة منها:
- قوله تعالى : ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا [ ص: 55 ] مثلا كذلك يضل الله من يشاء ) (المدثر:31) ، فالآية أنكرت على من يبحث عن مراد الله تعالى، ووصفتهم بالضلال.
- قوله تعالى : ( فعال لما يريد ) (هود:107) ،
بقوله: ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (الأنبياء:23) ،
فالآيتان تدلان على النهي عن التعليل والبحث عن مراد الله من أفعاله.
- قوله تعالى: ( أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ) (يس:47) ،
فهذا إنكار منه تعالى للتعليل؛ لأنهم استنكروا أن يكلفهم الله تعالى بالصدقة والإطعام مع قدرته سبحانه على ذلك، وهذا نص الإخفاء فيه على أنه لا يجوز تعليل شيء من أوامره.
- قوله تعالى : ( وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) ( البقرة:26) ،
فقد دلت الآية على أنه لا يحل التعليل في شيء من الدين، ولا أن يقول قائل: لم حرم هـذا؟ وأحل هـذا ؟ [10] .
والناظر في هـذه الآيات لا يجد فيها ما يدل على إنكار التعليل الذي يهدف إلى معرفة وإدراك مقصد الشارع، وليس فيها ما يدل على منع التساؤل والبحث عن علل النصوص، بل هـي حكاية عن الكفار الذين لم يستجيبوا لأوامر الله ونواهيه، وقابلوها بالسخرية والاستهزاء، واعترضوا على إدارة الله تعالى في الخلق والتدبير، وضرب الأمثال. [ ص: 56 ] ومعلوم أن ضرب الأمثال في القرآن غايته التدبر والتفكر لاستجلاء مراد الله منها، والحكم البالغة فيها؛ لتكون عظة وعبرة، قال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) (العنكبوت:43) ،
فقد جعلت الأمثال للتعقل والتبصر، ولا يدرك ذلك عامة الناس، بل العلماء والحكماء هـم الأقدر؛ لكونها تقتضي التأمل والبحث عن العلل والحكم الخفية.
أما قوله تعالى: ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (الأنبياء:23) ،
فليس فيه ما يدل على إنكار التعليل ومنع البحث عن العلل، يقول ابن عاشور عند هـذه الآية : (وليس المقصود هـنا نفي سؤال الاستفادة والاستنباط؛ مثل: أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحكم المبثوثة في الأحكام الشرعية أو في النظم الكونية؛ لأن ذلك استنباط وتتبع) [11] .
والمراد من الآية، أنه (ليس هـناك قوة أعلى من قوته تحاسبه سبحانه وتعالى على علمه، فتثيبه على الخير وتعاقبه على الشر، كما يحاسب الإنسان ويجازى، فإن جميع القوى في الكون مستمدة من قوته تعالى، وبهذا تكون هـذه الجملة ملائمة لقوله تعالى : ( وهم يسألون ) (الأنبياء:23) ؛ إذ معناه: يحسبون) [12] . [ ص: 57 ]
أسباب انحراف الظاهرية في فهم النصوص
إن التمسك بالظاهر وإنكار التعليل والتقصيد إلا فيما ظهر منهج قاصر ومحدود في معرفة فهم النصوص وحكمة التشريع؛ إذ لا يتجاوز في النظر فيما وراء الظاهر من معان ودلالات وإشارات. وهذا غير كاف في إدراك المصالح المتجددة غير المنصوص عليها. وقد أدى قصور هـذا المنهج الضيق في فهم النصوص وتعليلها إلى بروز مفاسد عديدة، نذكر منها:
1 - التوسع في الظاهر والاستصحاب فوق الحاجة
لما أنكر الظاهرية القياس والتعليل ، وأحسوا بعجز النصوص عن استيفاء الوقائع والأحداث اضطروا إلى التوسع في الظاهر والاستصحاب ، وحملوها فوق الحاجة، وأدى بهم ذلك إلى التكلف في استنباط أحكام لا يدل عليها الظاهر، فوقعوا في أخطاء كثيرة، يقول ابن القيم رحمه الله : (فنفاة القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح... احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحملوها فوق الحاجة، ووسعوهما أكثر مما يسعانه)
[13] . [ ص: 58 ] هذا يدل على أن إنكار التعليل والتقصيد إلا في ما ظهر منهج عاجز عن الإحاطة بمصالح الخلق، وأن الاستصحاب لا يغني عنه؛ ( فالاستصحاب فيه قصور عن فهم مقصد الشارع من شرعية الحكم، وعدم فهم دلالته) [14] .
2 - إنكار الكثير من المصالح المتجددة
إن إنكار التعليل والتقصيد وحصرهما في الظاهر أدي إلى رفض القياس ، الذي هـو منهج اجتهادي ضروري لمعرفة المصالح المتجددة غير المنصوص عليها، ومثل هـذا الرفض يؤدي بدوره إلى أحد احتمالين:
- إما القول بجمود الشريعة عن مسايرة المصالح المتجددة، وهذا يتنافى مع ما علم من كونها شريعة خالدة وعامة وصالحة لكل زمان ومكان.
- وإما الحكم على تلك المصالح المتجددة بأصل الحل العام أو الإباحة الأصلية، وقد تكون محرمة، وفي هـذا مناقضة لمقصد الشارع وإهدار للمصالح [15] .
وقد حذر ابن عاشور من الغلو في الظاهر إلى درجة اتهام الشريعة بالجمود عن مسايرة مصالح الناس، يقول: (وأنت إذا نظرت إلى أصول الظاهرية تجدهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نوط أحكامها بالحكمة؛ لأنهم نفوا القياس والاعتبار بالمعاني، ووقفوا عند الظواهر فلم يجتازوها... على أن أهل الظاهر يقعون بذلك في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يرو فيه عن الشارع حكم من حوادث الزمان، وهذا موقف خطير يخشى على المتردد فيه أن يكون نافيا عن شريعة الإسلام صلاحها لجميع العصور والأقطار) [16] . [ ص: 59 ]
وقد أنكر الظاهرية بسبب الغلو في الظاهر الكثير من مصالح الناس المتجددة التي لم يرد فيها نص؛ كإنكارهم العقود والشروط الجعلية في باب المعاملات المالية، والنكاح، وقد رد عليهم ابن القيم بما فيه الكفاية [17] .
3 - تضييق مجال المعرفة العقلية
إن تقديس الظاهر إلى درجة إنكار التعليل والقياس منهج يحصر المعرفة في نطاق الفهم اللغوي للألفاظ، ولا يتعدها إلى البحث عن العلل والأسباب، مما يعني التضييق من المعرفة العقلية خارج الدائرة اللغوية للألفاظ. وهذا المنهج لا يتفق ومعقولية التشريع، وغائية أحكامه لقيامه على المنطق اللغوي وحده [18] .
ذلك أن النصوص جاءت لتحقيق الصلاح الفردي والاجتماعي والعلمي عبر العور، وهي محدودة ومتناهية بخلاف الوقائع والأحداث غير المتناهية، فكيف يمكن الإحاطة بها مع إنكار التعليل ورفض البحث عن العلل والأسباب؟
ومن هـنا فإن رأي الظاهرية في فهم النصوص قاصر لا يتفق ومعقولية التشريع والحكمة منه. [ ص: 60 ]