الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الضابط الرابع

التفريق بين المعاني الشرعية المقصودة

والمعاني اللغوية غير المقصودة

على المجتهد أثناء استنباط المعاني من النصوص ملاحظة الفرق بين الوصف الطردي للاسم -أي: المعنى اللغوي له- الذي لا يتعلق به غرض شرعي، وبين الوصف المقصود من التشريع، وهذا الوصف هـو علة الحكم عند علماء الأصول الذي يترتب عليه جلب منفعة أو دفع مضرة، فلا عبرة بالمعاني اللغوي بل العبرة بالمعنى الشرعي له.

يقول ابن القيم : (ومعلوم أن الله سبحانه حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه، وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، والذي أنزله هـو كلامه، فحدود ما أنزل الله هـو الوقوف عند حد الاسم الذي علق عليه الحل والحرمة، فإنه هـو المنزل على رسول، وحده بما وضع له لغة أو شرعا، بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه، ولا يخرج منه شيء من موضوعه) [1] أنواع الحد

وتختلف المسميات باختلاف الحد، وهو ثلاثة أنواع:

الحد اللغوي مثل الشمس والقمر، والبر والبحر، والليل والنهار.

الحد الشرعي : مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة، والإيمان والإسلام والتقوى، ونظائرها. [ ص: 123 ]

الحد العرفي : مثل السفر والمرض المبيح للترخيص، والسفه والجنون الموجب للحجر، والشقاق الموجب لبعث الحكمين، والنشوز المسوغ لهجر الزوجة وضربها، والتراضي المسوغ لحل التجارة، والضرار المحرم بين المسلمين، وأمثال ذلك.

وكل نوع من أنواع هـذه الحدود يجب الوقوف به عند مسماه الذي وضع له من غير تجاوز، فلا يصح إدخال فيه ما ليس منه أو إخراج منه ما لا يقتضيه، وإلا كان متعديا حدودها [2] .

ضرورة الوقوف عند حدود المسميات الشرعية

إن الوقوف عند المسميات الشرعية ومراعاتها أثناء البحث والاستنباط، وعدم الخلط بينها وبين غيرها من المسميات اللغوية والعرفية مفيد في إدراك مراد الله تعالى من النصوص والأحكام، ومغن عن اللجوء إلى وسائل إضافية خارجة عن النص من أجل إدراك المعنى أو الوصول إلى الحكم الشرعي؛ كاستعمال القياس في مقابلة النص. وقد قصر طوائف من الفقهاء في إدراك هـذا الضابط وملاحظته أثناء البحث، فوقعوا في أخطاء؛ منها:

- الخطأ في حد الخمر: حيث خصه بعضهم ببعض المسكرات، ولجئوا إلى القياس عليه؛ لتعميم حرمة كل مسكر، ولم يسلم لهم ذلك من الاعتراض، ولو أدركوا أن الشارع حده يتناول كل فرد من أفراده، كما ورد في [ ص: 124 ] الحديث: ( كل مسكر خمر ) [3] . لأغناهم ذلك عن استعمال القياس، ولكان التحريم لجميع المسكرات ثابتا بالنص لا بالرأي.

- الخطأ في حد الميسر: حيث خصه بعضهم بنوع معين، ولجئوا إلى قياسه عليه؛ لتحريم الشطرنج، مع أن دخوله في حد الميسر أولى من دخول غيره.

- الخطأ في حد السارق: حيث أخرج بعضهم منه نباش القبور، ثم لجئوا إلى قياسه على السارق من أجل إلحاقه بحكمه، فعارضهم من لا يجوز القياس في الحدود والأسماء، ولو وقفوا عند مسمى السارق شرعا لعلموا أنه عام يستغرق لفظه كل سارق، لا فرق بين سارق الأثمان وسارق الأكفان [4] .

- استباحة المحرمات بتسميتها بغير أسمائها الموضوعة شرعا، وافتعال أسماء لها مخالفة لمسمياتها المعهودة؛ محاولة للتنصل من الحرمة إلى الإباحة، وهذا ما هـو واقع ومشاهد؛ فقد استحدثت للمسكرات أسماء جديدة كالمشروبات الروحية، وأحل الربا تحت أسماء جديدة كالتوفير والاحتياط، وأصبحت الحروب تقام تحت غطاء مكافحة الإرهاب وحفظ الأمن الإقليمي والعالمي، وأبيحت الرشوة باسم الهدية.

والحقيقة أن تغير أسماء المحرمات ليس لذواتها ولا لصورها، بل لما فيها من مفاسد وأضرار، ومن ثم تبقى محرمة أبدا، ولو كان لتبديل الأسماء والصور أثر في تبدل الأحكام لفسدت الأديان، وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام [5] . [ ص: 125 ] - وقد أشار الإمام الغزالي إلى المفاسد التي نشأت عن تحريف مدلول الأسامي الشرعية عندما تحدث عن: (بيان ما بدل من ألفاظ العلوم) فقال: (اعلم أن منشأ التباس العلوم المذمومة بالعلوم الشرعية تحريف الأسامي المحمودة، وتبديلها، ونقلها بالأعراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول) [6] . وتابع ابن حزم الغزالي فيما ذهب إليه عندما تحدث عن: (الألفاظ الاصطلاحية الدائرة بين أهل النظر) فقال: (هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه، وشبك بين المعاني، وأوقع الأسماء على غير مسمياتها، ومزج بين الحق والباطل، فكثر لذلك الشغب والالتباس، وعظمت المضرة، وخفيت الحقائق) [7] .

ومن أهم الوسائل في ضبط الحدود والمسميات الشرعية ما يلى: أ - الانضباط بتمييز المواهي والمعاني تمييزا لا يقبل الاشتباه: بحيث تكون لكل ماهية خواصها وآثارها المرتبة عليها؛ كتمييز طرق القرابة المبينة لأسباب الميراث، وفي التحريم من حرم نكاحه، فتعين المصير إليها دون ما لا ينضبط من مراتب المحبة والصداقة والنفع والتبني؛

ولذلك قال تعالى: ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ) (النساء:11) ، وقال : ( وما جعل [ ص: 126 ] أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هـو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) ( الأحزاب:4-5) .

ب - مجرد تحقق مسمى الاسم: كنوط الحد في الخمر بشرب جرعة منه؛ لأنه لو نيط الحد بحصول الإسكار لاختلف دبيب السكر في العقول، فلا يكاد ينضبط، ومن ثم لا يتحقق حصول الحد إلا بعناء والتباس، ولو نيط بنهاية السكر لحصلت مفاسد جمة قبل حصول تلك النهاية، وكذلك نوط صحة بيع الثمار بحصول الاحمرار والاصفرار في أصناف الثمر، ونوط تقرر إكمال المهر بمجرد المسيس والدخول بالمرأة، ونوط لزوم العقد بحصول الرضا المعبر عنه بالإيجاب والقبول.

ج - التقدير: كنصب الزكوات، وعدد الزوجات، ونصاب القطع في السرقة، وأقل المهر، وغيرها.

د - التوقيت: مثل مرور الحول في زكاة الأموال، وأربعة أشهر في الإيلاء، وأربعة أشهر وعشر في عدة الوفاة، ومرور الحلول في سقوط حق الشفعة [8] .

العبرة بالمعنى الشرعي الأصلي وليس المعنى الاصطلاحي الحادث المتأخر:

يجب أيضا مراعاة المصطلح الشرعي الذي وضع أولا، من دون اعتبار لأي تغير يحدث في المعنى لاحقا، [ ص: 127 ] وهذا ما نبه عليه ابن عاشور بقوله: (فالأسماء الشرعية إنما تعتبر باعتبار مطابقتها للمعاني الملحوظة شرعا في مسمياتها عند وضع المصطلحات الشرعية، فإذا تغير المسمى لم يكن لوجود الاسم اعتبار) [9] . ومن أمثلة ذلك:

- الكون في البرية في حقيقة الحرابة أمر غالب وليس مقصودا شرعيا، لذا كان حكم الحرابة عاما في المدن والبراري على السواء، ولا يقتصر على وقوع الجريمة في البراري وحدها؛ لأن ذلك يخالف المقصود من تشريع الحرابة.

- صيغ التبرعات، قد يستعمل بعضها في بعض؛ كالعمرى المعقبة تصير في معنى الحبس، والحبس المجعول فيه شرط البيع يصير إلى معنى العمري، والصدقة المشروطة فيها حق الاعتصار تصير إلى معنى الهبة، والعطايا المشروط فيها تصرف المعطي في المعطى إلى موته تصير إلى معنى الوصية وإن أسموها حبسا أو هـبة أو عمري.

- صيغ النكاح بلفظ الهبة جائزة شرعا، إذا كانت مقرونة بذكر الصداق [10] .

وقد أكد هـذا المعنى القرضاوي مبينا خطورة الخلط بين المعاني الأصلية والمصطلحات الحادثة المتأخرة، مؤكدا هـذا الضابط في التعامل مع القرآن، وذلك بفهم ألفاظه وفق اللغة التي نزل بها أول مرة في عصر الوحي، قال: [ ص: 128 ] (فكثيرا ما تتطور دلالات الألفاظ والجمل والتراكيب بتطور العصور، وتطور المعارف والعلوم، واتصال الشعوب بعضها ببعض، ويتدخل العرف أو الاصطلاح أو غيرها؛ بإعطاء دلالات جديدة للألفاظ والجمل لم تكن لها في عصر النبوة، فلا يجوز أن تحكم هـذه الدلالات الجديدة في فهم القرآن) [11] .

ومن الأمثلة التي ساقها على تبدل معاني الكلمات بتبدل الأعصار كلمة (سياحة) ، فمعناها في القرآن محمول إما على الصيام أو على الهجرة في سبيل الله،

كما في قوله تعالى: ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله ) ( التوبة:112) ،

وقوله: ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ) (التحريم:5) .

أما معناها في العصر الحديث فأصبح يطلق على التجوال والتنزه بغية الترفيه على النفس، وما يصاحب ذلك من الفسوق والعصيان في البلدان الغربية. وكذلك كلمة (فتاة) ،فإن معناها في القرآن يدل على الأمة -ضد الحرة- كما ورد في قوله:

( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن [ ص: 129 ] تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ) (النور:33) أي إمائكم، وليس المراد من الفتاة البنت، كما ذهب إلى ذلك بعض أساتذة التاريخ، حيث عاب على بعض العرب الذين كانوا يكرهون بناتهم على البغاء [12] .

وقال في موضع آخر مؤكدا هـذا الضابط في التعامل مع السنة النبوية، وهو بصدد الحديث عن التأكد من مدلولات ألفاظ الحديث النبوي: (فقد يصطلح الناس على ألفاظ للدلالة على معان معينة، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولكن المخوف هـنا هـو حمل ما جاء في السنة من ألفاظ -ومثل ذلك في القرآن- على المصطلح الحادث، وهنا يحدث الخلل والزلل، ثم لا يزال هـذا التبدل -أي: تبدل معاني الألفاظ- يتسع مع تغير الزمان، وتبدل المكان وقصور الإنسان إلى أن تصبح الشقة بعيدة بين المدلول الشرعي الأصلي للفظ، والمدلول العرفي أو الاصطلاحي الحادث المتأخر، وهنا ينشأ الغلط وسوء الفهم غير المقصود، كما ينشأ الانحراف والتحريف المتعمد، وهو ما حذر منه الجهابذة والمحققون من علماء الأمة أن تنزل الألفاظ الشرعية على المصطلحات المستحدثة على مر العصور. ومن لم يراع هـذا الضابط يقع في أخطاء كثيرة، كما نرى في عصرنا) [13] . [ ص: 130 ] ومن الأمثلة على وقوع أخطاء في هـذا العصر بسبب عدم مراعاة هـذا الضابط لفظة: (التصوير) ، التي وردت في أحاديث صحيحة متفق عليها، تتوعد المصورين بأشد أنواع العذاب، عممها البعض على (التصوير) بالآلات الحديثة، فهل ينطبق معنى التصوير المتوعد عليه على هـؤلاء المصورين؟

والحقيقة أن العرب حين وضعوا كلمة التصوير لم يكن يخطر ببالهم هـذا الأمر، وكذلك المشرع حين اصطلح على هـذه التسمية لم تعرف هـذا الآلات في عصر التشريع، ومن ثم فهي ليست تسمية لغوية ولا شرعية، بل هـي اصطلاح عرفي حادث، فلا ينطبق عليها الوعيد الوارد في الحديث [14] وهكذا نخلص على القول:

بأن التمييز بين المعنى الشرعي والمعاني الاصطلاحية الحادثة المتأخرة أصبح أمرا ضروريا [15] ؛ تجنبا لأي خلط قد يؤدى إلى تحريف النصوص عن مراميها ومقاصدها، جريا وراء إرضاء نزوات فكرية طائشة تهدف إلى لي النصوص؛ ابتغاء الفتنة، أو التضليل، أو الصد عن سبيل الله. [ ص: 131 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية