الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الضابط السادس

التمييز بين مقامات الخطاب

قد يحتمل اللفظ معنى واحدا، وقد يحتمل أكثر من معنى؛ فالأول هـو المسمى عند الأصوليين بالنص، وهذا إشكال في فهم المراد منه، والثاني المسمى بالظاهر، وهذا الذي يحتمل معاني متعددة لا يظهر المقصود منها تحديدا إلا بعد البحث والتحري، ومن ثم لا بد من الاستعانة بما يحف الخطاب من قرائن وملامح من سياق ومقام؛ لإزالة الاحتمالات البعيدة عن مراد المتكلم أو مراد الشارع [1] . وأمثلة ذلك كثيرة منها:

- لفظ الأمر من الظاهر الذي يحتمل الوجوب أو الندب أو الإباحة، فالأصل فيه الوجوب عند الجمهور إلا إذا صرف إلى غيره من المعاني؛ لذا وجب البحث عن المراد الحقيقي من هـذه المعاني في ظاهر الصيغة، وما يحيط بها من قرائن السياق، حتى إذا تعذر ذلك حملنا الأمر على الظاهر وهو الوجوب.

- لفظ النهي من الظاهر الذي يحتمل الكراهة أو التحريم، فالأصل فيه التحريم عند انعدام الصارف له إلى الكراهة.

- لفظ العام من الظاهر الذي يحتمل التخصيص، فلا يحمل على عمومه إلا بعد التحري عن المخصص، وكثيرا ما يكون ظاهر اللفظ وصيغته عام، لكن المراد منه الخصوص. [ ص: 136 ] وهكذا يظهر أثر القرائن وسياق الخطاب في تحديد المراد من النص والمقصد الشرعي منه، وإلى هـذا أشار الشاطبي بقوله: (إن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل... فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم هـو الالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون أخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية, وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض، ولأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام إلى أوله، وأوله إلى أخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم) [2] .

فالمراد من هـذا الضابط؛ وهو النظر في سياق الخطاب الشرعي، سوابقه ولواحقه؛ لتحديد المقصود منه، لذا فالنظرة الكلية للنص وما يحتف به من قرائن ضرورية لفهم مراد الشارع منها، أما النظرة الجزئية فلا تفيد إلا في تحديد المعنى اللغوي لظاهر النص. كما أشار إلى هـذا الضابط الزركشي بقوله: (اعلم أن الكتاب هـو القرآن، المتلو، وهو إما نص، وهو ما لا يحتمل إلا معنى... وإما ظاهر، وهو ما دل على معنى مع تجويز غيره. والرافع لذلك الاحتمال قرائن لفظية ومعنوية؛ واللفظية تنقسم إلى: منفصلة، ومتصلة) [3] . [ ص: 137 ]

يفهم من هـذا ضرورة التأمل في السياق الذي ورد فيه النص والقرائن المحتفة به لإزالة الغموض والإبهام الذي يعترض فهم النص من جهة دلالته.

أنواع القرائن المحتفة بالنص

تتنوع إلى قرائن لفظية ومعنوية، واللفظية تنقسم إلى: متصلة ومنفصلة:

- القرائن اللفظية المتصلة : وهي على نوعين:

- نوع يصرف اللفظ إلى غير الاحتمال الذي لولا القرينة لحمل عليه، وتسمى: تخصيصا أو تأويلا،

ومثاله قوله تعالى: ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) (البقرة:275) ،

فقوله: ( وحرم الربا ) دل على أن المراد من قوله: ( وأحل الله البيع ) البعض دون الكل، الذي هـو ظاهر بأصل الوضع، وبين أنه ظاهر في الاحتمال الذي دلت عليه القرينة في سياق الكلام.

- ونوع يظهر به المراد من اللفظ، ويسمى: بيانا،

ومثاله قوله تعالى: ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) (البقرة:187) ،

فقوله: ( من الفجر ) فسر مجمل قوله: ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ؛ إذ لولا ( من الفجر ) لبقي الكلام الأول على تردده وإجماله. [ ص: 138 ]

- القرائن اللفظية المنفصلة : وهي على نوعين؛ تأويل وبيان:

- ومثال الأول قوله تعالى: ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ... فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) (البقرة:229-230) ، فإنه دل على أن المراد من قوله: ( الطلاق مرتان ) الرجعي؛ إذ لولا هـذه القرينة لكان الكل منحصرا في الطلقتين، وهذه القرينة وإن كانت مذكورة في سياق ذكر الطلقتين إلا أنها جاءت في آية أخرى، فلهذا جعلت من قسم المنفصلة.

- ومثال الثاني قوله تعالى: ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) (القيامة:22-23) ،

فإنه دل على جواز الرؤية، وهو مفسر لقوله: ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) (الأنعام:103) ،

حيث كان مترددا بين نفي الرؤية أصلا وبين نفي الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية، وأيضا قوله تعالى:

( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) (المطففين:15) ،

فإنه لما حجب الفجار عن رؤيته خزيا لهم، دل على إثباتها للأبرار، وارتفع بذلك الإجمال في قوله: ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) (الأنعام:103) .

القرائن المعنوية : وهي غير محصورة العدد، ومثالها قول الله تعالى: ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) (البقرة:228) ، [ ص: 139 ] فقد جاء في صيغة الخبر، لكن لا يمكن حمله على حقيقته، فإنهن قد لا يتربصن، فيقع خبر الله بخلاف مخبره، وهو محال، فوجب حينئذ اعتبار هـذه القرينة لحمل الصيغة على معنى الأمر، وليس الخبر؛ صيانة لكلام الله تعالى عن احتمال المحال [4] .

وهكذا يظهر دور القرائن في إدراك معاني الآيات والنصوص، وإزالة ما يعترضها من إبهام وإشكال وتردد، وهذا ما اصطلح على تسميته ابن عاشور بـ: معرفة مقام الخطاب ، وهو ضروري لإدراك مقصد الشارع من الخطاب الشرعي؛ كمعرفة مقامات الأمر، ومقامات النهي، ومقامات العام، وغيرها.

وفيها يقول الشاطبي : ( فالأوامر والنواهي من جهة اللفظ على تساو في دلالة الاقتضاء، والتفرقة بين ما هـو أمر وجوب أو ندب، وما هـو نهي تحريم أو كراهة، لا تعلم من النصوص، وإن علم منها بعض، فالأكثر منها غير معلوم، وما حصل لنا الفرق بينها إلا بإتباع المعاني، والنظر إلى المصالح، وفي أي مرتبة تقع؟ وبالاستقراء المعنوي، ولم نستفد فيه بمجرد الصيغة) [5] ؛ أي: (بالاستقراء في موارد الأمر والنهي، وما يحتف بها من القرائن الحالية والمقالية) [6] .

فالقرائن الحالية والمقالية المحتفة بالخطاب هـي مقامات الخطاب كما سماها ابن عاشور، وهذه المقامات متفاوتة في الاعتبار؛ لذا لا بد من التعرف على أنواعها والمعتبر منها. [ ص: 140 ]

أنواع مقام الخطاب

يتنوع مقام الخطاب الشرعي إلى نوعين: مقام مقال، ومقام حال، وإليه أشار الشاطبي بقوله: (يفهم من الأوامر والنواهي قصد شرعي بحسب الاستقراء، وما يقترن بها من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على أعيان المصالح في المأمورات والمفاسد في المنهيات) [7] .

فالمراد من القرائن الحالية : مقام الحال ، والمراد من القرائن المقالية : مقام المقال ، ومن ثم فإن (للخطاب الشرعي مقاما مكونا من مقامين جزئيين، لا يستغني الباحث عن أحدهما دون الآخر، في سبيل ضبط معناه المقصود؛ أولهما مقام مقاله، والثاني مقام حاله) [8] تعريف مقام المقال : (هو ما يحف الخطاب من القرائن اللفظية) [9] . أي ما يحيط بالنص من العناصر اللغوية والدلالية. والمقصود من (البانية) ما يتعلق بتحديد معنى اللفظ لغويا؛ أي التفسير اللغوي للألفاظ. أما المقصود من (الدلالية) فما يتعلق بتحديد دلالة اللفظ على الحكم بعبارته أو إشارته أو إيمائه أو اقتضائه أو مفهومه؛ أي: التفسير الدلالي للنص [10] وككونه عاما أو خاصا، مطلقا أو مقيدا، ظاهرا أو نصا، واضحا أو خفيا. [ ص: 141 ]

تعريف مقام الحال : (هو ما يحف الخطاب من القرائن الحالية التي تدل على المقصود منه) [11] ؛ أي: ما يحيط الخطاب الشرعي من الظروف والسياقات المختلفة التي رافقت وروده [12] .

من هـنا فإن مقام المقال خاص بالفهم اللغوي والدلالي للنص؛ أي: فهم الظاهر منها، أما مقام الحال فإنه خاص بفهم المراد من النص والمقصد منه؛ لذا أقتصر في الحديث على مقام الحال لأهميته في تحديد مراد الشارع.

أنواع مقام الحال

يتنوع مقام الحال إلى أنواع بحسب غرض الشارع، ويتوقف إدراك مقصد الشارع بالوقوف على طبيعة المقام ونوعه؛ ومنها:

مقام التقوى ومقام التقديس : إن الشارع حث على العمل الصالح، ورغب فيه، حتى صار العمل مقصدا شرعيا، وأدلة القرآن الكريم والسنة طافحة ببيان الأعمال الصالحة، والترغيب فيها والتحذير من تركها، فمقام التقوى راجع إلى التحذير من المفاسد، ومقام التقديس راجع إلى الترغيب في المصالح. [ ص: 142 ] يقول ابن عاشور : (وحاصل معنى الإصلاح في العمل ألا يكون مفضيا إلى مفسدة أو إضاعة مصلحة، سواء حصلت منه مصلحة قوية أم ضعيفة، أم لم تحصل له مصلحة أو مفسدة، غير أن الإسلام لعنايته بالصلاح قد رغب في التكثير من الأعمال المفضية إلى مصالح عائدة على العامل أو غيره، فلذلك رسم الإسلام لإصلاح الأعمال كلها مقامين: المقام الأول: التحذير مما يفيت المصالح الأكيدة أو يجلب المفاسد للعامل أو لغيره.

المقام الثاني: التحريض على الاستكثار من جلب المصالح ومن إبطال المفاسد للعامل ولغير.

وسمي المقام الأول: مقام التقوى ، والمقام الثاني: مقام التقديس ) [13] .

ويمكن القول: إن آيات الترغيب في فعل الخير والعمل الصالح تندرج ضمن مقام التقديس، وآيات الترهيب من فعل الشر، والمفاسد تندرج ضمن مقام التقوى.

- مقام التغيير ومقام التقرير : قد يظن بعضهم أن التشريع الإسلامي جاء لتغيير أحوال الناس وعوائدهم دون التمييز بين ما هـو صالح منها وفاسد، والحقيقة أن الناظر في أصول التشريع يميز في خطابها بين مقامين:

أ - مقام التغيير : وهو تغير الأحوال الفاسدة التي لا تتلاءم مع مقاصد الشريعة؛ عقيدة وعبادة وسلوكا وعادة، وهذا المقام هـو المشار إليه بقوله تعالى:

( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) (البقرة:257) ،

وقوله أيضا: ( ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ) (المائدة:16) ،

ومن ذلك تغيير عدة الوفاة من الحول أيام الجاهلية إلى أربعة أشهر وعشر، وتغيير حكم الإحداد وتهذيبه حيث كانت المرأة تلبس شر الثياب، وتمكث في بيت حقير، ولا تتنظف [ ص: 143 ] ولا تتطيب مدة سنة، فجاء الإسلام، وأبطل ذلك بتغييره إلى ما يليق بمقام المعتدة، فمنعها من اللباس والطيب الذي يرغب الناس في خطبتها، وأباح ما سوى ذلك في حدود المعروف.

ب - مقام التقرير: وهو المحافظة وإقرار ما كان عليه العرب أيام التشريع، وهي المعبر عنها بقوله تعالى:

( يأمرهم بالمعروف ) (الأعراف:157) ،

فالكثير من الفضائل والأعراف الصالحة أقرها الإسلام؛ لعدم منافاتها لمقاصد الشريعة، لذا فإن مقصد الشريعة من التشريع تغيير وتقرير [14] .

- مقام التشريع: يتعلق هـذا المقام بتشريع الأحكام العملية المرادة من خطاب المكلفين اقتضاء أو تخييرا، ويعتبر أهم المقامات؛ لذا على الناظر في الشريعة أن يميز بين مقام التشريع عن غيره من مقامات الترغيب والترهيب، والتبشير والتحذير، والتعليم والتحقيق، ولهذا أكد عليه ابن عاشور بقوله: (وإن أدق مقام وأحوجه إلى الاستعانة عليها مقام التشريع، وفي هـذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعهم لم يستغنوا على استقصاء تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا على استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدون الرحال إلى المدينة ليتبصروا من آثار الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله وعمل الصحابة... ليستبين لهم ما يدفع عنهم احتمالات كثيرة في دلالات الألفاظ، وليتضح لهم ما يستنبط من العلل تبعا لمعرفة الحكم والمقاصد " [15] . [ ص: 144 ] ويدخل في مقام التشريع التمييز بين مقامات تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لكونه تصدر عنه تصرفات كثيرة تختلف مقاماتها، لذا كان على الفقيه أن يميز بين هـذه التصرفات لمعرفة المقصود منها، عن طريق إدراك مقامات أقواله وأفعاله وتقريراته، فهناك مقام التبليغ، ومقام الإمامة، ومقام القضاء، ومقام الفتوى، فبعضها عام ملزم، وبعضها خاص غير ملزم.

فمقام التبليغ عام لجميع المسلمين، لا يستثنى منه أحد من المكلفين بخلاف المقامات الثلاثة الأخرى، فإنها لا تكون عامة في جميع الأحوال، بل تتوقف على اجتهاد الإمام لارتباط القضاء والفتوى والإمامة بالمصلحة، ومعلوم أن المصالح المتعلقة بالمعاملات خاصة ومتغيرة بحسب الأشخاص والأحوال والأوقات [16] .

فمقام التشريع هـو المقام الوحيد الذي يمكن أن تستنبط منه المعاني والعلل والحكم المقصودة من التشريع، بخلاف المقامات الأخرى؛ كمقام الترغيب والترهيب، لذا أكد ابن عاشور التفريق بين المقامات لإدراك المقصد الشرعي من غيره، وفي هـذا يقول: (على العالم المتشبع الاطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطاباتها؛ فإن منها مقام موعظة، وترغيب وترهيب، وتبشير وتحذير، منها مقام تعليم وتحقيق، فيرد كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق) [17] . وفي موضع آخر [ ص: 145 ] حذر من استنباط معان من أحكام وعظية، كالادعاء بأن الصائم إذا اغتاب أحدا أفطر؛ لأنه أكل لحم أخيه ميتا كما ورد في قوله تعالى: ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) (الحجرات:12) .

يقول: (واعلم أن الأمور الوهمية وإن كانت لا تصلح للكون مقصدا شرعيا للتشريع، فهي صالحة لأن يستعان بها في تحقيق المقاصد الشرعية، فتكون طريقا للدعوة والموعظة، ترغيبا وترهيبا... فعلى الفقيه أن يفرق بين المقامين، فلا يذهب يفرع على تلك المواعظ أحكاما فقهية؛ كمن توهم أن الصائم إذا اغتاب أحدا أفطر؛ لأنه قد أكل لحم أخيه) [18] .

دور المقام في معرفة المعنى المقصود من الخطاب

يظهر دور المقام في معرفة مقصد الشارع من الخطاب عبر ثلاثة مستويات [19] ؛ هـي:

مستوى تفسير النصوص، ومستوى تعليل الأحكام، ومستوى الاستدلال على الأحكام.

أ - مستوى تفسير النصوص

إن المراد من تفسير النص إدراك معناه المقصود شرعا، ويظهر أثر التمييز بين مقامات الأحوال في تحديد المراد الشرعي من الخطاب في المثالين الآتيين: [ ص: 146 ] ( قوله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي محمد بيده لقد هـممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم ) [20] .

ذكر ابن عاشور هـذا الحديث، وبين ما وقع للناظرين فيه من إشكالات وأجوبة بعيدة عن مقصود الشارع منه، ثم بين الجواب الفصل فيه؛ بأن الحديث وارد في شأن المنافقين، وليس في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لقرينتين:

الأولى: تنزه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن التهاون بحضور الجماعة، بله التهاون بصلاة العشاء.

الثانية: الوعيد الشديد في الحديث يدل على عظم العقوبة، وهذا مؤذن بأن الحديث ورد بشأن المنافقين.

ثم بين ابن عاشور أن عزم الرسول صلى الله عليه وسلم وهمه بإلحاق ما توعد به المنافقين، لم يستمر، وتفسير ذلك؛ إما لكونه لم يقر على هـمه، أو أنه شرع وقتا للزجر ثم نسخ قبل العمل به.

وبهذا التفسير للحديث تندفع جميع الاحتمالات الواردة على الحديث، ومنها كونه يفيد وجوب صلاة الجماعة عند البعض، ويبقى مدلول الحديث الوحيد هـو الدلالة على فضل وأهمية صلاة الجماعة، بدليل أن الإمام مالكا ترجم لهذا الحديث تحت عنوان: (فضل صلاة الجماعة) ، مما يوحي بأنها غير [ ص: 147 ] واجبة، وكذلك لما كان هـم رسول الله معطلا أو منسوخا لم يكن الحديث صالحا على حكم شرعي تكليفي، وكانت دلالته مقتصرة على بيان أهمية الجماعة في الصلاة، وهذا الذي غضب لأجله الرسول صلى الله عليه وسلم [21] .

فالمقام الذي سيق لأجله الحديث هـو مقام حالي ، وهو من مقام التهويل والمبالغة في تأديب المسلمين، فلا يتعدى قصد الشارع منه التوبيخ والتهديد [22] .

قول الله تعالى: ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) (البقرة:216) ،

وقوله أيضا: ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) ( النساء:19) .

يظهر التفاوت في المقام في إدراك معنى الآية والمقصود منها، فالمقام الحالي الذي سيقت فيه الآية الأولى مختلف عن الثاني.

فمقام الأولى: (بيان الحقيقة، نظر فيها إذ المخاطبون كرهوا القتال وأحبوا السلم، فكان حالهم مقتضيا بيان أن القتال قد يكون هـو الخير لما يحصل بعده من أمن دائم... وأن السلم قد يكون شرا لما يحصل معه من استخفاف الأعداء بهم، وطمعهم فيهم، وذهاب عزهم. أما مقام الآية الثانية، فهو بيان حال حكم من حدث بينه وبين زوجه ما كرهه فيها، حتى رام فراقها، وليس له مع ذلك ميل إلى غيرها) [23] . فهذا المقام اقتضى من الشارع بيان ما في الصبر [ ص: 148 ] على المكروهات من الخير الكثير، ولم يبين في هـذه الآية ما في بعض الأمور المحبوبة من المفاسد والشرور؛ لأن المقام غير مناسب؛ لكونه يفتح باب التعلل لهم بما يأخذون من الطرف الذي يميل إليه هـواهم.

ولما اختلف المقامان اختلف أيضا إسناد فعل الخير في كل من الآيتين، فأسند في سورة البقر على المخاطبين، اعتبارا لما يقارن بعض الحقائق من الخفاء في ذاتها، وأسند في سورة النساء إلى الله عز وجل الذي اقتضى أنه جعل عارض لمكروه خاص، فالصبر على الزوجة في هـذا الحالة هـو خير؛ لأنه منشأ الجزاء على الامتثال.

وبناء عليه، يكون المقصد الشرعي من آية البقرة هـو تعليم المسلمين تلقي أحكام الشريعة، تلقي المتبصر بعواقب ومآلات أحكامها، ويكون المقصد من آية النساء هـو الإرشاد إلى إعمال النظر والانتباه إلى عواقب الأشياء وعدم الاغترار ببوارق أمورها الظاهرة [24] .

ب - مستوى تعليل الأحكام

أي معرفة علل النصوص الدالة على الأحكام الشرعية، ويظهر أثر التمييز بين مقامات الخطاب في معرفة العلة المرادة من النص، التي هـي مقدمة لمعرفة الحكمة والمقصد الشرعي.

وقد سبق بيان تنوع المقامات إلى مقام: تقوى، وتقديس، وتقرير، وتغيير، ودعوة وموعظة، وترغيب وترهيب، وتشريع. ولما كان مقام التشريع هـو اللائق بمعرفة مقصد الشارع، كان التعليل خاصا به في المقام الأول، فلا يترك لغيره من المقامات التي تناسب استنباط أحكام شرعية من [ ص: 149 ] النصوص أو القياس عليها؛ وأحسن مثال على ذلك الاعتقاد الخاطئ أن الصائم إذا اغتاب أحدا أفطر؛

استدلالا بقوله تعالى: ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) (الحجرات:12) ،

فليس الأكل في الآية محمولا على حقيقته الشرعية، إنما هـو مجاز ورد في مقام التحذير من الاغتياب.

ج - مستوى الاستدلال على الأحكام

يظهر أثر المقام الحالي والتمييز بين أنواعه في إدراك معاني النصوص ومقاصدها، ومن ذلك المسالة المختلف فيها بين الفقهاء، المتعلقة بحكم التسمية على الذبيحة أثناء الذكاة؛

استدلالا بقوله تعالى: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) (الأنعام:121) ،

فبعضهم ذهب إلى وجوب التسمية تعلقا بهذه الآية، وبعضهم نفى أن تكون الآية واردة لبيان حكم التسمية ككونها واجبة أو شرطا.

وبتبيين الصواب من الخطأ، من خلال تمييز مقام الخطاب بمعرفة ظروف وملابسات نزول الآية، بالرجوع إلى القرائن المحتفة بالخطاب يتبين أن المقام الحالي الذي نزلت الآية لأجله هـو إبطال قياس المشركين المموه بأن الميتة التي ماتت حتف أنفها من غير ذكاة أولى بالأكل الحلال الطيب، مما قتله الذابح بيده، ببيان الفرق بين المذكي والميتة؛ بأن الأول ذكر اسم الله عليه، والثاني لا يذكر اسم الله عليها.

فهذا المقام الحالي طريق لإدراك المقصد الشرعي من ورود الآية وهو مجرد تحذير المسلمين من ترك التسمية، فلا علاقة لها بحكم التسمية أهي [ ص: 150 ] واجبة أم غير واجبة؛ لأن مراد الشارع من قوله: ( مما لم يذكر اسم الله عليه ) (الأنعام:121) ،

هـو ذلك الشيء المعين فقط، فيقتصر الحكم المستفاد من الآية على ذلك الشيء المعين فقط [25] .

وهكذا من خلال عرض هـذه المستويات الثلاث: مستوى تفسير النصوص، وتعليل الأحكام، والاستدلال على الأحكام. يتجلى دور المقام الحالي والتمييز بين أنواعه في إدراك مقصد الشارع من النص، وتجنب الوقوع في زلة الفهم وأخطاء التعليل والتقصيد والاستدلال.

ولزيادة البيان والإيضاح فإن مقام الحال هـو ما عبر عنه بعض العلماء بـ: قرينة السياق ، وأكدوا ضرورة مراعاتها أثناء البحث والنظر والاستدلال، وفيها يقول الزركشي : ( دلالة السياق : فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظيره، وغلط في مناظراته،

وانظر في قوله تعالى: ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) (الدخان:49) ،

كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير [26] . [ ص: 151 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية