الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الضابط الثالث

فهم النص ظاهرا ومعنى في إطار لسان العرب وعرفهم

في الخطاب والفهم الغالب عند جمهورهم

لما كانت نصوص القرآن نزلت بلسان عربي مبين، كان على الناظر فيها أن يكون متمكنا مما يأتي:

أ - معرفة قواعد البيان العربي، ومقاصد خطاب العرب؛ لئلا يقع في زلة الفهم، فيستنبط معاني بعيدة عن مقاصد الشارع [1] .

ب - معرفة عادات العرب أيام نزول الوحي؛ لأن القرآن نزل مراعيا عرفهم في الخطاب، وهذا لا يتم إلا بمعرفة القرائن المحتفة بنزول القرآن كأسباب النزول وغيرها، وهذا جار في الألفاظ والمعاني على السواء [2] .

ج - اختيار المعاني الغالبة عند العرب، القابلة للفهم عند جمهورهم لا عند خواصهم؛ ليحقق مقصد الشارع من الخطاب وهو الفهم والعمل، ومن ثم عليه أن يتجنب التكلف في اختيار المعاني الدخيلة والغريبة والغامضة [3] . كما يتجنب المعاني المجازية غير المعهودة لديهم مثل:

- قول من زعم أن النعلين في قوله سبحانه وتعالى : ( فاخلع نعليك ) (طه:12)

إشارة إلى خلع الكونين، فهذا الظاهر لا تعرفه العرب في استعملاتها الحقيقة أو المجازية [4] . [ ص: 118 ] - وكذا من فسر قوله: ( والجار ذي القربى ) (النساء:36) ،

بأنه القلب. ( والجار الجنب ) (النساء:36)

النفس الطبيعي. ( والصاحب بالجنب ) (النساء:36)

العقل المقتدي بعمل الشرع. ( وابن السبيل ) (النساء:36) الجوارح المطيعة لله عز وجل .

- وكما حمل بعضهم قوله تعالى: ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) (البقرة:114) ،

على أن المساجد القلوب تمنع بالمعاصي من ذكر الله.

- وكذا من فسر قوله تعالى: ( إن أول بيت وضع للناس ) (آل عمران:96) ،

بأن باطن البيت قلب محمد صلى الله عليه وسلم ،

يؤمن به من أثبت الله في قلبه التوحيد، واقتدى بهدايته.

وهذا التفسير مشكل؛ لبعده عن معهود العرب، فالجاري على مفهومها هـو الظاهر المقصود من الخطاب ابتداء، ثم إنه لا دليل على صحة هـذا التفسير؛ لا من مساق الآية، ولا من خارجها، بل هـذا أقرب إلى تفاسير الباطنية [5] .

وهذا هـو ما قصده الشاطبي عندما وصف الشريعة بأنها (أمية) ؛ أي لا تحتاج في فهمها إلى تعمق في العلوم الكونية والرياضية وغيرها؛ لأنها لو كانت كذلك لاستعصت على فهم الجمهور من العرب والعجم، ولكان في الامتثال لأوامرها ونواهيها مزيد من الحرج والمشقة، وهذا يتنافى مع كونها موضوعة على التيسير. [ ص: 119 ] وهذا خاص بالأحكام التكليفية؛ لكونها جاءت على العموم لتسع جميع العالمين، أما معرفة الأسرار والحكم والمواعظ والعبر، وكذا الأحكام الاجتهادية فإن منها الخفي والدقيق الذي لا يدركه إلا الخواص، وهذا لا ضرر فيه [6] . فالذي يجب أن يعلمه الفقيه والمفسر والمجتهد أن الناس ليسوا في الفهم... وتأتي التكاليف على وزان واحد، إلا أنهم متقاربون في فهم المعاني الجمهورية وما والاها، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا [7] .

وبناء عليه يجب ترك الاشتغال بالمعاني الغريبة والبحث فيما لا فائدة فيه وما لا يتلاءم مع الفهم الجمهوري، فكثيرا ما يغفل الناس عن هـذا المقصد فيستنبطون معاني غريبة من الكتاب والسنة، تستبهم على الملتمس وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب؛ وسواء في ذلك الأمور الاعتقادية أو العملية.

ففي الأمور الاعتقادية المتعلقة بمعرفة قضايا عالمي الغيب والشهادة يجب أن تكون المفاهيم والمعاني قريبة من فهم وإدراك الجمهور، وترك المعاني الخاصة التي لا يفهمها إلا الخواص كما جرى عند أهل الكلام؛ فإنها لو وضعت للخواص لما كانت الشريعة عامة، وللزم عن ذلك تكليف الجمهور بما لا يطاق، وهو غير واقع.

وأما في الأمور العملية؛ فإن الشارع خاطب الجمهور بما يفهمونه، وحدد الكثير من رسومات العبادة وفق معهود العرب أيام نزول الوحي؛ كتحديد المواقيت بطلوع الفجر وغروب الشمس، وتبين الخيط الأبيض من [ ص: 120 ] الخيط الأسود، والصوم لرؤية الهلال والفطر لرؤيته، ولم يطالبوا بالحساب الفلكي؛ لأنه لم يكن من معهودهم ولا من علومهم في ذلك الوقت [8] .

وتأكيد لهذا الضابط قال الزركشي : (تجنب الأعاريب المحمولة على اللغات الشاذة، فإن القرآن نزل بالأفصح من لغة قريش، قال الزمخشري في كشافه القديم: القرآن لا يعمل فيه إلا على ما هـو فاش دائر على ألسنة فصحاء العرب دون الشاذ النادر لا يعثر عليه إلا في موضع أو موضعين، وبهذا يتبين غلط جماعة من الفقهاء والمعربين، حين جعلوا من العطف على الجوار في قوله:

( وأرجلكم إلى الكعبين ) (المائدة:6) ،

في قراءة الجر، وإنما ذلك ضرورة، فلا يحمل عليه الفصيح؛ ولأنه إنما يصار إليه إذا أمن اللبس، والآية محتملة؛ ولأنها إنما يجيء مع عدم حرف العطف، وهو هـاهنا موجود) [9] . إن عدم مراعاة الضابط السابق أدى إلى الوقوع في أخطاء عديدة، منها:

- الذين ادعوا جواز نكاح الرجل تسع نسوة من الحرائر، مستدلين بقوله تعالى:

( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) (النساء:3) ،

وهذا خروج باللفظ عن مفهومه العربي.

- ومنهم من يرى أن شحم الخنزير وجلده حلال؛ لأن الله اقتصر في تحريمه على ذكر اللحم، في قوله:

( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) [ ص: 121 ] (المائدة:3) ومعلوم أن اللحم في كلام العرب يتناول الشحم وغيره بخلاف العكس.

- ومنهم من فسر (غوى) في قوله تعالى: ( وعصى آدم ربه فغوى ) (طه:121)

أنه تخم من أكل الشجرة، استنادا إلى قول العرب: (غوي الفصيل يغوي غوي) ؛ إذا بشم من شرب اللبن وهو فاسد؛ لأن (غوي الفصيل) على وزن (فعل) بالكسر، والذي في القرآن على وزن (فعل) بالفتح، فافترقا في المعنى بسبب اختلاف الوزن.

- ومنهم من فسر قوله: ( ولقد ذرأنا لجهنم ) (الأعراف:179) ،

بمعنى: ألقينا فيها؛ أخذا من قول الناس: (ذرته الريح) ، وهذا مأخوذ من الفعل (ذرأ) المهموز، فاختلفا في المعنى المراد باختلاف الوزن، إلى غير ذلك مما وقع فيه أهل الكلام النابذون للمنقولات للرأي، مما أدى بهم إلى تحريف كلم الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان [10] .

ومن هـنا صاغ الشاطبي القاعدة الآتية: (كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به) [11] . [ ص: 122 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية