الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الأول

نقد وإبطال النزعات المغالية في فهم النص

أولا: نقد النزعة الباطنية

الباطنية اسم لعدة فرق ظهرت في التاريخ الإسلامي، وقد ذكر أصحاب المقالات أن دعوة الباطنية ظهرت أول مرة في زمن المأمون ، وانتشرت في زمان المعتصم ، وأن الذين وضعوا أسسها من المجوس



[1] .

وسبب تسميتهم بالباطنية إشارة إلى مذهبهم، وهو القول بالإمام المستور؛ ولأنهم يزعمون أن للشريعة ظاهرا وباطنا، وأن الناس يعلمون علوم الظاهر، والإمام يعلم علم الباطن [2] . [ ص: 43 ]

رأيهم في فهم النصوص

يرى الباطنية أن مقصد الشارع ليس فيما يتبادر إلى الذهن من المعاني الظاهرة التي تدل عليها القواعد اللغوية، وسياق النصوص، وقرائن الأحوال، بل المقصد فيما وراء الظاهر من المعاني الباطنية.

ولقد لخص الشاطبي -رحمه الله- رأيهم بقوله: (إن مقصد الشارع ليس في هـذه الظواهر ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه، ويطرد هـذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك يمكن أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع) [3] .

وقد عرفت هـذه الفرقة في التاريخ الإسلامي بعداوتها للإسلام؛ لذلك لجأت إلى الطعن في الشريعة الإسلامية، ولما لم تجد في ظواهر النصوص ما يؤيد فكرتها لجأت إلى القول بالإمام المعصوم، وقدحت في الظواهر مدعية بأن الحقيقة عند الأمام المعصوم، ولجئوا إلى تأويل القرآن الكريم تأويلا باطنيا، بدعوى أن له ظاهرا وباطنا، وأن حقيقته في باطنه فقط [4] .

ومما يدل على أن غرضهم رفع الشريعة وإبطال العمل بها أنهم أولوا أصول الدين تأويلا قائما على الشرك، كما أولوا فروع الشريعة تؤيلا يؤدي إلى تعطيلها، وذلك بترك الفرائض وإباحة المحرمات، ومن ذلك أنهم [ ص: 44 ] يقولون بـ: قدم العالم، وينكرون الرسل والشرائع كلها، ويبيحون نكاح البنات والأخوات، وشرب الخمور، ويزعمون أن الصلاة موالاة لإمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والصوم والإمساك عن إفشاء سر الإمام وليس الإمساك عن الطعام، ومن عرف الباطن فهو من الملائكة الأبرار، ومن عمل بالظاهر فهو من الشياطين الكفار [5] .

ويبين الشاطبي -رحمه الله- قصدهم في رفع وإبطال الشريعة بقوله: (وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة؛ وهم ( الباطنية ) ، فإنهم لما قالوا بالإمام المعصوم لم يمكنهم ذلك إلا بالقدح في النصوص والظواهر الشرعية؛ لكي يفتقر إليه على زعمهم) [6] . إن رأي الباطنية في فهم النصوص يعتمد على تقديس الباطن وإنكار الظاهر، مما أدي لخروجهم عن حدود الشريعة ومقاصدها.

وقد وصفهم أبو حامد الغزالي [7] -رحمها الله- بقوله: (إن رتبة هـذه الفرقة -الباطنية- هـي أخس من رتبة كل فرق الضلال) . نقله عنه الشاطبي رحمه الله [8] . [ ص: 45 ] وبين الإمام الرازي [9] أن الفساد الواقع من الباطنية أكثر من فساد الكفار؛ ذلك أنهم يتسترون بالشريعة لإبطالها [10] .

وقال فيهم الإمام ابن حزم [11] : (وقد أكذب الله تعالى هـذه الفرقة الضالة، بقوله تعالى زاما لقوم يحرفون الكلم عن مواضعه: ( ويقولون سمعنا وعصينا ) ( النساء:46) ، ولا بيان أجلى من هـذه الآية في أنه لا يحل صرف كلمة عن موضعها في اللغة ولا تحريفها عن موضعها في اللسان، وأن من فعل ذلك فاسق مذموم عاص) [12] .

وقال فيهم عبد القاهرة البغدادي : (إن الباطنية خارجة عن فرق الأهواء، وداخلة في فرق الكفر الصريح؛ لأنها لم تتمسك بشيء من أحكام الإسلام في أصول ولا في فروعه) [13] .

وبين الشاطبي أن رأيهم في فهم النصوص مؤد إلى الكفر: (ومآل هـذا الرأي إلى الكفر -والعياذ الله- والأولى أن لا يلتفت إلى قول هـؤلاء) [14] . [ ص: 46 ]

أسباب انحراف الباطنية في فهم النصوص

إن أهم أسباب انحراف الباطنية في فهم النصوص، واعتمادهم كليا على تقديس الباطن ومعاداة الظاهر، يرجع إلى:

1 - الجهل بأدوات الفهم وحاصله أن الباطنية فسروا نصوص القرآن من غير الرجوع إلى قواعد اللغة العربية وأصول التفسير والاستنباط، فزاغوا عن الحق. ومعلوم أن القرآن عربي، ولا يمكن فهم معناه واستخراج مقاصده وحكمه إلا وفق اللسان العربي، ومن ثم كان على الناظر في الشريعة أصولا وفروعا أن يكون عربيا أو كالعربي في فهم قواعد العربية فهما صحيحا، ومن عجز عن ذلك استعان بالأئمة المجتهدين.

2 - دعوى نقصان الشريعة وحاصله أن الباطنية ادعوا أن التمسك بالظاهر غير كاف في الإحاطة بالشريعة، وتبقي ناقصة ما لم تئول نصوصها تأويلا باطنيا، وأن ذلك لا يتيسر لكل الناس إلا للإمام المعصوم.

وهذا افتراء منهم، وجهل بمقاصد القرآن والشريعة؛ ذلك أن الله تعالى أكمل الشريعة بنزول القرآن الكريم وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم النصوص بأمارات ودلالات يهتدي بها المجتهدون لاستخراج الأحكام من الظواهر، كما جاءت النصوص معللة في الغالب للسماح للمجتهدين بالقياس عليها في الوقائع والحوادث التي لم ينزل فيها نص. وبهذا تكون الشريعة وافية بحاجات الخلق على امتداد العصور، وهذا أكبر مقصد من مقاصدها؛ وهو خلودها وتحقق مصالح الناس في كل وقت وحين، فمن ادعى نقصانها فقد ضل وغوى. [ ص: 47 ]

3 - تحسين الظن بالعقل وحاصله أن الباطنية اتهموا الشريعة بالنقصان، وعجز النصوص عن الوفاء بمصالح البشر، ولذلك أطلقوا العنان للعقل في تأويل النصوص وتفسيرها بشكل مخالف لظواهرها، مما أدى إلى الغلو والتطرف إلى حد تعطيل الفرائض وإباحة المحرمات فوقعوا في الكفر والضلال؛ لأنهم جعلوا الشرع تابعا للعقل. والحقيقة أن الشريعة بمصادرها النقلية والعقلية جاءت وافية بحاجات البشر، ومتضمنة تحقيق صلاح الفرد والمجتمع والعالم، وأنها فتحت للعقل باب النظر والاجتهاد في إطار النصوص؛ تفسيرا وتأويلا وتعليلا واستنباطا، بحيث يكون العقل تابعا للشرع لا عكس؛ ذلك أن العقل معرض للخطأ والصواب، فما وافق النصوص كان مقبولا، وما خالفها كان مرفوضا.

4 - اتباع الهوى إن من أسباب انحراف الباطنية اتباع الهوي في تأويل النصوص وتفسيرها وتقصيدها؛ حيث جعلوا النصوص مطية لتحقيق أغراضهم وأطماعهم الشهوانية، فعطلوا الفائض وأباحوا المحرمات تحقيق لنزعات الهوى. ومعلوم أن القرآن الكريم نزل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن هـوى النفس إلى هـدي الحق؛ حتى يكونوا عباد الله اختيارا كما هـم عبيده اضطرارا، فكان لزاما على العباد التعبد والانصياع لأوامره ونواهيه [15] . [ ص: 48 ]

5 - رفض المعرفة الكسبية والاحتكام للمعرفة الذوقية إن معرفة المقاصد تقوم أساسا على الفهم الظاهري للنصوص، من خلال: قواعد اللغة العربية، وقواعد الأصول، ومسالك التعليل والتقصيد. فهي معرفة مكتسبة بجهد عقلي وفكري متميز، قائم على الحس والإدراك، والتحليل والاستنباط في إطار النصوص، أما معرفة الباطنية فإنها قائمة على رفض المعرفة الظاهرية -أي: المكتسبة- وتعتمد على المعرفة الذوقية القائمة على الأغراض والأهواء، والادعاء بأنه لا سبيل للعامة لمعرفتها، إنما هـي من حظ الخواص، فلا سبيل لنيلها بالوسائل المعتادة عن طريق التفكير العقلي، وإنما تنال تقليدا من الإمام المعصوم [16] .

هـذه أهم أسباب زيغ الباطنية في فهم النصوص، وقد لخصها أحد الباحثين بقوله : (ومن المعلوم عند أهل النظر والعقل من العلماء والمحققين أن محاولة استخراج تفسيرات باطنية لأي قانون أو شريعة دون الرجوع إلى مداليل اللغة، وطبيعة استعمال التراكيب، ومتطلبات النحو والبلاغة، وقواعد الأصول، ومقاييس العقل، وما ينطبق على الواقع تعني مسخ ذلك القانون أو تلك الشريعة؛ لأن التأويل بلا ضوابط يؤدي إلى تعدد النظر وتباين الآراء دون الاستناد على قاعدة معلومة، وهذه تتبع الأهواء والرغبات التي يضيع معها الحق أو تتشوه معالمه، ولأجله كان ضرر الباطنية على الإسلام أكثر من ضرر أعدائه الصرحاء من الملاحدة واليهود والنصارى) [17] . [ ص: 49 ] هذه أهم معالم منهج الباطنية في فهم النصوص وتفسيرها، مع الإشارة أن هـذه الفرقة الضالة لم تنقرض ولم ينته دورها، بل ما زال امتدادها إلى العصر الحديث في صورة دعوات فردية لإعادة قراءة النص القرآني بعيدا عن الأطر اللغوية والنحوية والأصولية، أو في صورة حركات منظمة مثل: (البابية) التي ظهرت في إيران ، (والقاديانية) التي ظهرت في الهند و (البهائية) . وكلها تهدف إلى طمس معالم الشريعة والتخلص منها عن طريق التفسير الباطني [18] .

التالي السابق


الخدمات العلمية