الضابط الثاني
اتفاق المعنى مع الظاهر؛
أن يشهد له نص آخر، أو يندرج ضمن مقاصد الشريعة
لا يصح اعتبار معنى من المعاني هـو المراد من الخطاب الشرعي ومقصوده إلا بشرطين:
الأول: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب، ويجري على المقاصد العربية.
والثاني: أن يكون له شاهد؛ نصا أو ظاهرا، في محل الآخر يشهد لصحته، غير معارض.
فالشرط الأول ظاهر لكون القرآن عربيا، فإن أي فهم لنصوصه وأحكامه لا يقتضيه كلام العرب، فلا يوصف بكونه عربيا بإطلاق.
وأما الشرط الثاني فلأنه لو لم يكن له شاهد في محل آخر من نص أو ظاهر، أو كان له معارض صار من جملة الدعاوى التي تدعى على القرآن بغير دليل، وهي مردودة باتفاق العلماء [1] .
إن الغلو في اعتبار المعنى، دون قيد، قد يؤدى إلى الإخلال بالظاهر، مما يترتب عنه مخالفة مقصد الشارع من النص؛ لذا وجب أن يكون مندرجا ضمن مقاصد الشرع؛ كحفظ الدين، أو حفظ النفس، أو حفظ العقل، أوحفظ النسل، أو حفظ المال، وبعبارة أخرى يكون محققا لمصلحة [ ص: 114 ] حقيقية شرعية، أو دافعا لمفسدة حقيقة شرعية. فهذا الضابط مكمل في الحقيقة للضابط السابق وخادم له. وبه تحفظ نصوص القرآن والسنة من التفسير والتأويل المناقضين لمقصود والشرع، ويعطي لفهم الظاهر حقه ولفهم المعنى حقه، وتسير النصوص في نظام متناسق بين ظواهرها ومعانيها دون غلو في أحدهما على حساب الآخر، يقول الشاطبي : (إن المعاني غير معتبرة بإطلاق، وإنما تعتبر من حيث هـي مقصود الصيغ، فاتباع أنفس الصيغ التي هـي الأصل واجب؛ لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع، ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل) [2] .
وقد أدى الإخلال بهذا الضابط إلى إهدار النصوص وطرحها بدعوى قصورها وعدم وفائها بحاجات الناس ومصالحهم، كما فعل الباطنية والطوفية . ولهذا وضع العلماء شروطا للقياس، وشروطا للعلة المستنبطة في محل الأصل، وحددوا ضوابط لاعتبار المصلحة المقصودة شرعا، وجعلوا مسالك خاصة للتعليل؛ كل ذلك لضبط المعاني والمفاهيم المستخرجة من النصوص؛ حتى لا تعود عليها بالإبطال.
ويتفرع عن هـذا الضابط ما يلي:
أولا: لا عبرة بالمعاني المستندة إلى مجرد الكشف والإلهام والوحي النومي
فلا يصح اعتبار هـذه الوسائل كأدوات لاستنباط الأحكام إلا بشرط أن لا تخرم حكما شرعيا ظاهرا أو قاعدة شرعية محكمة، وإلا كانت إما خيالا [ ص: 115 ] أو وهما أو من إلقاء الشيطان، وجميع ذلك لا يصح اعتباره لكونه معارضا لما هـو ثابت شرعا. فلو ثبت له عن طريق المكاشفة أن هـذا الماء المعين نجس أو مغصوب، أو أن هـذا الشاهد كاذب، وغير ذلك، فلا يصح له العمل على وفق ذلك، ولا بناء أحكام شرعية، ما لم يتعين سبب ظاهر؛ كالانتقال من الوضوء بالماء إلى التيمم، وترك قبول الشاهد، ويتعين العمل بالظاهر الثابت شرعا [3] .
ثانيا: لاعبرة بالاعتبارات الغيبية
وكذلك لا يصح إثبات أحكام شرعية بالاعتماد على مجرد الخواطر الغيبية؛ لأن فتح هـذا الباب يوشك أن يخرم الظواهر الشرعية، فإن من قتل وقامت عليه البينة، أقيم عليه حد القصاص؛ لأن ذلك ظاهر، أما من طلب قتله بغير سبب ظاهر، بل بمجرد أمر غيبي، ربما شوش الخواطر، وران على الظواهر. ومن هـنا سد الشارع هـذا الباب جملة، واشترط في قبول الدعاوي أن تكون ثابتة ببينة [4] .
وفي هـذا يقول الشاطبي : (فليس كل ما اطلع عليه الولي من الغيوب يسوغ له شرعا أن يعمل به، بل هـو على ضربين:
- أحدهما: ما خالف العمل به ظواهر الشريعة من غير أن يصح ردها إليها، فهذا لا يصح العمل عليه البتة.
- والثاني: ما لم يخالف العمل به شيئا من الظواهر، أو إن ظهر منه خلاف فيرجع بالنظر الصحيح إليها، فهذا يسوغ العمل عليه) [5] . [ ص: 116 ]
ثالثا: لا عبرة بالتفاسير الباطنية للنصوص
كقول بعضهم في قول الله تعالى: ( وورث سليمان داود ) (النمل:16) ، إنه الإمام ورث النبي علمه. وأن معنى (الجنابة) مبادرة المستجيب بإفشاء السر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق. وأن معنى (الغسل) تجديد العهد على من فعل ذلك. وأن معنى (الطهور) التبري والتنظيف من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام. وأن معنى
(التيمم) الأخذ من المأذون إلى أن يشهد الداعي أو الإمام. وأن معنى (الصيام) الإمساك عن كشف السر. وأن معنى (الكعبة) النبي. ومعنى (الباب) علي . ومعنى (الصفا) النبي. ومعنى (المروة) علي . ومعنى (التلبية) إجابة الداعي. ومعنى
(الطواف سبعا) هـو الطواف بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى تمام الأئمة السبعة. وأن (الصلوات الخمسة) أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام [6] .
وهذا التفسير الباطني للنصوص البينة المحكمة بحملها على ما يخالف الظاهر هـو الإلحاد في آيات الله تعالى، الذي توعد الله عليه في قوله تعالى:
( إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ) (فصلت:40) ،
والمراد بـ: الإلحاد في الآية: الميل بها عن المقصود منها، وهو مدخل واسع للهدامين الذين أرادوا الكيد للإسلام وأمته، وهو ما تزعمته المدرسة الباطنية بكل فئاتها، ومختلف أسمائها [7] . [ ص: 117 ]