الضابط الخامس
التفريق بين المعاني الحقيقية والمجازية
المعنى الحقيقي : هـو اللفظ المستعمل في موضوعه، وأما المجاز : فهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه [1] .
فقد يكون للفظ معنيان: حقيقي ومجازي، وحينئذ لا يصار إلا إذا تعذر الحمل على الحقيقة، وقد أشار إلى مراعاة هـذا الضابط الزركشي حين قال: (وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين، وهو في أحدهما أظهر، فيسمى الراجح ظاهرا، والمرجوح مئولا) [2] .
وساق لبيان هـذا الضابط أمثلة:
- قوله تعالى: ( وهو معكم أين ما كنتم ) (الحديد:4) ،
فحمل المعية على القرب بالذات مستحيل، فتعين صرفه عن الحقيقة وحمله على المجاز، وهو إما على الحفظ والرعاية، أو على القدرة والعلم والرؤية.
- قوله تعالى: ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) (الإسراء:24) ،
فحمل جناح الذل على ظاهره وحقيقته بعيد لاستحالة أن يكون آدمي له أجنحة، ومن ثم يتعين حمله على المعنى المجازي؛ وهو الخضوع وحسن الخلف.
- قوله تعالى: ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) (الإسراء:13) ،
فحمله على حقيقته بعيد؛ لاستحالة أن يشد كل مطيع [ ص: 132 ] وعاص يوم القيامة في عنقه طيرا من الطيور، فوجب حمله على المعنى المجازي، وهو التزام كل إنسان يوم القيامة كتابه [3] .
ما يترتب على إغفال هـذا الضابط
وقد أكد هـذا الضابط من المعاصرين القرضاوي ، إذ يقول: (وإغفال التفريق بين المجاز والحقيقة يوقع في كثير من الخطأ، كما رأيت ذلك بجلاء عند الذين يسارعون إلى الفتوى في عصرنا فيحرمون ويوجبون، ويبدعون ويفسقون، وربما يكفرون بنصوص إن سلم لها بصحة الثبوت، لم يسلم لها بصراحة الدلالة) [4] . ومثال ذلك:
- فتوى بعض المعاصرين بحرمة المصافحة؛ استدلالا بالحديث: ( لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) [5] . حيث حملوا معنى المس في الحديث على ظاهره وحقيقته، وهو اتصال البشرة بالبشرة. والظاهر أن الحديث ليس نصا في تحريم المصافحة؛ لأن المس والملامسة واللمس يرد في لغة القرآن والسنة كناية عن الجماع كما فسر ابن عباس ،
وهو المفهوم من قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) (الأحزاب: 49) ،
فالمراد من المس هـنا بإجماع [ ص: 133 ] المفسرين هـو كناية عن الدخول. ومن ثم فليس في الحديث ما يدل على حرمة الصافحة بمجرد المس الذي لا تصاحبه شهوة، ولا تخاف منه فتنة [6] .
إشكال الحمل على الحقيقة
حمل الألفاظ على الحقيقة قد يورث إشكالا في الفهم، لا يزيله إلا الحمل على المجاز، ومثاله
- معنى النفس في الحديث: ( اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير ) [7] . فلا يراد منه النفس هـنا معناه الحقيقي، بل المراد منه المعنى المجازي، وهو التصوير والتمثيل والتهويل لأنواع من العذاب فيها.
- معنى الرحم في حديث: ( إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هـذا مقام العائذ بك من القطيعة... ) [8] ، فالمراد من الرحم -أي: القرابة- مختلف فيه بين المفسرين: أهو محمول على الحقيقة أو المجاز؟ والراجح هـو المعنى المجازي، وأنه من باب ضرب المثل، وأن المقصود هـو الإخبار على تأكيد صلة الرحم، وأنه تعالى أنزلها منزلة من استجار به فأجاره، فأدخله في حمايته [9] .
كما أن حمل الألفاظ على الحقيقة قد يكون سببا في صد الكثير من [ ص: 134 ] المثقفين المعاصرين عن فهم السنة، وفهم الإسلام عموما؛ لما يحدث في نفوسهم من الشك والارتياب في ظواهر النصوص المحمولة على حقيقتها، ومن ثم تبدو ضرورة الحمل على المجاز لتقريب الفهم والإقناع، كما أن حمل النصوص على حقيقتها يعرض المفاهيم الدينية المقدسة للتفسيرات المغرضة الهادفة إلى النيل والسخرية من الدين، بدعوى منافاتها للعلم الحديث والفكر المعاصر، ومثال ذلك:
- تفسير الحمى في الحديث: ( الحمى من فيح جهنم ) [10] . بأنها ليست من فيح جهنم، بل هـي من فيح الأرض، وما فيها من أقذار، تسب في ولادة الجراثيم. وسبب هـذا التفسير حمل معنى اللفظ على حقيقته، والمراد منه المعنى المجازي.
- حمل معنى حديث: ( اعملوا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) [11] . على ظاهره وحقيقته من أن الجنة موضوعة تحت ظلال السيوف، لكن المراد هـو المعنى المجازي، وهو أن الجهاد في سبيل الله -ورمزه السيف- يكون صاحبه أقرب إلى طريق الجنة.
- حمل معنى الجنة الوارد في حديث: ( ...الزمها، فإن الجنة تحت أقدامها ) [12] . على حقيقته وظاهره، من أن الجنة موجودة تحت أقدام الأمهات، وهو حمل بعيد، فالمقصود منه أن بر الأم ورعايتها من أوسع الأبواب إلى الجنة، والحديث ورد تعليما لمن أراد أن يخرج للجهاد تاركا أمه وراءه محتاجة إليه [13] . [ ص: 135 ]